اكرم حسين
يُشكّل الوضع التاريخي والاجتماعي للشعب الكردي في المشرق العربي قضية حضارية معقدة تعكس التناقضات العميقة بين الأكثرية والأقليات في هذه المجتمعات. فعلى الرغم من إسهامات الكرد الكبيرة في بناء الحضارة الإسلامية والعالمية، فإنهم يعانون من التهميش والإقصاء في وطنهم الاصلي . هذا التناقض بين إسهاماتهم التاريخية وما يعيشونه من واقع قاسٍ يتطلب تحليلاً عميقاً لفهم جذور هذه الإشكالية، والتي تنطوي على تفاعلات تاريخية واجتماعية وسياسية متعددة الأبعاد.
فعلى مدار تاريخهم، لعب الكرد دوراً مهماً في إثراء الحياة الثقافية والسياسية في العالم الإسلامي. فقد كان صلاح الدين الأيوبي، الذي حرّر القدس وقاد الحروب ضد الحملات الصليبية، من أبرز الشخصيات الكردية التي شكلت جزءاً أساسياً من هذه المساهمات. كما قدّم الكرد العديد من العلماء والفلاسفة مثل ابن الأثير وابن كثير وشرفخان البدليسي، الذين كانت أعمالهم محوريّة في تطور الفكر الإسلامي. إضافة إلى ذلك، لعب الكرد دوراً بارزاً في الأدب والفن أيضاً.
وفي العصر الحديث، شارك الكرد بشكل كبير في الحركات التحررية في المنطقة. فكانت مشاركتهم حاسمة في الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين، كما ساهموا في الحركات التحررية في العراق وفلسطين. وبالرغم من تضحياتهم الكبيرة في الحروب التي خاضتها الدولة العثمانية ومن بعدها الدول الوطنية، فإنهم ظلوا يواجهون واقعاً من التهميش والإقصاء السياسي في تلك الدول.
لفهم جذور هذه الإشكاليّة، من المهم النظر إلى التحولات التي شهدتها المنطقة على مدار قرون. فبينما كانت الدولة العثمانية تعتمد نظام الملل الذي كان يعترف بالتعددية الاثنية والدينية، فإن التقسيمات التي فرضتها اتفاقية سايكس بيكو 1916 أعادت تشكيل الهويّة الوطنية في المنطقة بطريقة استبعادية للكرد. إذ قسَّمت المناطق الكردية بين أربع دول هي تركيا، إيران، العراق وسوريا، ما أدى إلى حرمان الكرد من كيان سياسي موحد وحوَّلهم إلى أقليات في دول كانت تسعى لبناء هويّة قومية واحدة.
على الصعيد السوسيولوجي، تبين أن المجتمعات غالباً ما تبني صوراً نمطية عن “الآخر” عبر تفاعلها الاجتماعي، وهو ما انعكس في كيفية تصوير الكرد في الخطاب العام. فقد ساهمت النخب الحاكمة في تعزيز صورة سلبية عن الكرد من خلال عدة آليات، أبرزها المناهج التعليمية التي تجاهلت تاريخهم وثقافتهم، والإعلام الذي غالباً ما صوّرهم كتهديد للهويّة الوطنية، بالإضافة إلى استخدام الخطاب السياسي للورقة الكردية لتحقيق مصالح تكتيكية.
إلى جانب هذا، لا يمكن إغفال البعد الاقتصادي في القضية الكردية. فتمتّع المناطق الكردية بثروات طبيعية كبيرة من نفط ومياه وزراعة جعل هذه المناطق محط اهتمام القوى السياسية والاقتصادية، بحيث تحوّل التنافس على الموارد إلى صراع هويّات، تم فيه تصوير الكرد كمنافسين على الثروات الوطنية، وهو ما زاد من تعميق الفجوة بينهم وبين السلطات الحاكمة.
لتجاوز هذه الإشكاليّة، يتطلب الأمر تبنّي نموذج سياسي يتّسم بالتعدديّة والاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي ، حيث يتطلب الأمر اتخاذ خطوات ملموسة مثل تعديل الدساتير لتضمين الاعتراف بالهويّة الكردية، وتشجيع اللامركزية في الحكم لضمان مشاركة الكرد في إدارة السلطة والثروة، والعمل على تحقيق نظام ديمقراطي يضمن المساواة في الحقوق والواجبات.
ويشكّل المشروع الثقافي ركيزة أساسية في تجاوز هذه الإشكاليّة، إذ يجب على المجتمعات العربية أن تعيد كتابة تاريخها المشترك بشكل أكثر موضوعية، بحيث تعترف بالإسهامات الكردية في بناء الحضارة الإسلامية ، وهذا يستدعي مراجعة المناهج التعليمية التي تهمل هذه الإسهامات، وتعزيز الحوار الثقافي بين المثقفين من مختلف الإثنيات، والبحث عن القواسم المشتركة التي تربط الكرد بالعرب في التراث والعادات.
من ناحية أخرى، لا يمكن حل هذه القضية دون التفكير في تنمية اقتصادية عادلة، تشمل تطوير المناطق الكردية وتحقيق العدالة في توزيع الثروات. ففي ظل التفاوت التنموي الكبير بين المناطق الكردية وغيرها من المناطق، فإن العمل على تحسين الوضع الاقتصادي سيعزّز من استقرار المنطقة ويسهم في خلق بيئة مؤاتية للتعايش السلمي والمستدام.
إن تجاوز الإشكاليّة الكردية يتطلب شجاعة تاريخية لمراجعة الماضي بموضوعية ورؤية سياسية بعيدة المدى لبناء المستقبل على أسس من التعاون والاحترام المتبادل. فالشعوب التي لا تستطيع إدارة تنوعها الداخلي بشكل عادل تضع نفسها أمام تحديات كبيرة في مواجهة التحديات الخارجية، وبالتالي، فإن الكرد بكفاءاتهم وإسهاماتهم التاريخية ليسوا جزءاً من المشكلة بل يمكنهم أن يكونوا جزءاً أساسياً من الحل إذا أتيحت لهم فرصة المشاركة الفاعلة في بناء الدولة….