حوران حم
على امتداد قرنٍ من الزمن، ظلّ الشعب الكردي في سوريا يقف عند عتبة الوطن، يطرق الأبواب المغلقة أملاً في شراكةٍ حقيقية داخل دولةٍ تعترف بوجوده وتمنحه حقّه المشروع في المساواة والكرامة. لكنّ الأبواب بقيت موصدة، والنداءات ذهبت أدراج الرياح، لتبقى الوعود بالتعايش والتعددية مجرّد شعارات تزيّن خطابات الحكومات المتعاقبة دون أن تجد طريقها إلى الواقع.
منذ نشوء الدولة السورية الحديثة، كان الكرد جزءاً أصيلاً من نسيجها الاجتماعي والوطني. آمنوا بأنّ الوطن يسع الجميع، وأنّ المواطنة هي الرابط الأسمى بين المكوّنات. غير أنّ سياسات الإنكار والإقصاء سرعان ما جعلتهم يشعرون أنهم غرباء في أرضهم. فمن حرمان مئات الآلاف من الجنسية السورية في إحصاء عام 1962، إلى منع لغتهم الأم من التداول في المدارس والمؤسسات، كانت الهوية الكردية تُمحى بخطابات قومية متشدّدة لا تعترف بالتنوّع، بل تراه تهديداً لوحدةٍ مصطنعة.
توالت الأنظمة وتبدّلت الشعارات، لكن النهج بقي نفسه. في عهد حزب البعث، جرى تعريب المناطق الكردية وتغيير أسمائها، وحرمان أبنائها من أبسط حقوقهم السياسية والثقافية. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ظنّ الكرد أنّ صفحة جديدة تُفتح في تاريخ البلاد، وأنّ زمن الإقصاء قد ولى. غير أنّ آمالهم ما لبثت أن تبخّرت حين اكتشفوا أنّ القوى الجديدة التي ظهرت على أنقاض النظام القديم لم تكن أقلّ استبداداً، ولا أكثر إيماناً بالشراكة الحقيقية.
تكرّر المشهد ذاته مع السلطة الانتقالية التي تشكّلت بعد سقوط النظام في بعض المناطق. فبدلاً من فتح صفحة وطنية جامعة، تمّ إقصاء الممثلين الكرد من صياغة الإعلان الدستوري ومن المشاركة في مؤسسات الدولة. حتى الرموز الثقافية والوطنية، مثل عيد نوروز، تم تجاهلها، وكأنّ الاعتراف بالآخر ترف لا يليق بدولةٍ تبحث عن التغيير. وهكذا شعر الكرد أنّ الثورة التي حلموا بها لم تكن سوى إعادة إنتاجٍ للاستبداد بثوبٍ جديد.
إنّ معاناة كرد سوريا لا تختزل في حرمانٍ سياسي أو اقتصادي فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى تهديدٍ وجوديٍّ يطال ثقافتهم وحقوقهم وهويتهم. فالمجازر والانتهاكات التي شهدتها مناطق متعددة في شمال وشرق البلاد أظهرت أنّ العقلية الإقصائية لا تزال تهيمن على مراكز القرار، وأنّ الخطر على الوجود الكردي لم يزل قائماً، مهما تغيّرت الشعارات والوجوه.
ومع تراكم الإحباطات، بدأت القناعة تترسّخ لدى شريحة واسعة من الكرد بأنّ البقاء على هامش المعادلة الوطنية لم يعد ممكناً. فحين تُغلق كل أبواب الحوار، وتُرفض كل محاولات الشراكة، يصبح من الطبيعي أن يبحث الشعب عن طريقٍ يضمن بقاءه وكرامته، استناداً إلى ميثاق الأمم المتحدة ومبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.
لكن، في المقابل، لا يمكن إنكار أنّ جزءاً من هذه المعاناة يعود إلى تقصير داخلي كردي. فالتشرذم السياسي، وانقسام الصفوف، واحتكار القرار من قبل قوى مسلّحة أو أحزاب ضيّقة الأفق، كلّها عوامل ساهمت في إضعاف الموقف الكردي وأفقدته قوته التفاوضية أمام الآخرين. لقد تحوّل الخلاف الحزبي إلى جدارٍ يفصل الأخ عن أخيه، وصارت القضايا الوطنية الكبرى تُختزل في حسابات نفوذٍ ومصالح آنية، بينما ضاعت القضية المركزية في زحمة الانقسامات.
اليوم، وبعد كل ما جرى، بات لزاماً على القوى الكردية أن تعيد النظر في مسارها. فالمستقبل لن يُبنى بالسلاح وحده، ولا بالمحاور الخارجية التي كثيراً ما استخدمت الورقة الكردية لتحقيق مصالحها. المطلوب هو رؤية وطنية جامعة، تنطلق من وحدة الموقف والهدف، وتضع المصلحة الكردية العليا فوق الاعتبارات الحزبية والجهوية.
من هنا، تبرز أهمية الخطوة التي انطلقت من كونفرانس قامشلو، والتي يمكن أن تكون نواةً لعملٍ وطني جامع يقود إلى مؤتمر كردي شامل، ينبثق عنه برلمان مصغّر أو هيئة تمثيلية تتحدث باسم كرد سوريا في المحافل الدولية. هيئةٌ مستقلة، محايدة، لا تخضع لأي تبعية كردستانية خارجية، تعمل بروحٍ مسؤولة لمصلحة أبناء كردستان سوريا وحدهم. ويكون من مهامها صياغة وثيقة سياسية شاملة تُقدّم إلى الأمم المتحدة، تعرّف بالقضية الكردية في سوريا، وتطالب بضمان الحقوق القومية والديمقراطية ضمن إطارٍ سلميٍّ وشرعي.
إنّ الكرد في سوريا بحاجةٍ اليوم إلى تجاوز الماضي، وفتح صفحة جديدة من العمل التشاركي والمسؤول، تجمع الأحزاب والنخب والمجتمع المدني والشتات في رؤية واحدة. فالقضية لم تعد مجرد شعارٍ أو حلمٍ مؤجل، بل هي مسؤولية جيلٍ بأكمله أمام التاريخ.
إنّ دعم المجتمع الدولي لهذا التوجّه لن يكون دعماً للتقسيم كما يروّج البعض، بل هو دعمٌ للعدالة والاستقرار. فالشعوب التي تُنصف، لا تثور، والتي تُمنح حقوقها، تبني السلام بدلاً من الصراع.
في النهاية، تبقى القضية الكردية في سوريا مرآةً لضمير العالم، واختباراً حقيقياً لإنسانية المجتمع الدولي. فهي قضية هوية وكرامة ووجود، وقبل أن تُعترف بها كأمة، يجب أن يُعترف بها كإنسانٍ له الحق في الحياة، واللغة، والوطن.