العراق… دولة على فوهة النفط والعطش

كفاح محمود

ستة مليارات دولار تُصرف شهريًا رواتب لموظفي الدولة في العراق، أي ما يعادل أكثر من ثلث واردات البلاد النفطية في بعض الأشهر، رقم مرعب لدولة تعتمد بنسبة تفوق 93% على صادرات النفط كمصدر وحيد للدخل القومي، في وقت لا تمتلك فيه خطة بديلة إذا ما انهارت الأسعار أو توقفت الصادرات لأي سبب سياسي أو أمني.

منذ عام 2003، لم تنجح أي حكومة في بناء اقتصاد متنوع أو في إطلاق مشاريع استثمارية منتجة، فقد تحوّل العراق إلى “دولة رواتب”، لا “دولة إنتاج”، إذ تُستهلك الموازنات في التعيينات السياسية والوظائف الشكلية، بينما تُهمل الصناعة والزراعة والسياحة، وتُحاصر بيئة الاستثمار بالروتين والفساد والابتزاز المسلح، والأخطر من ذلك أن البلاد تواجه أزمة مياه وجودية، إذ انخفض منسوب دجلة والفرات إلى أدنى مستوياته منذ عقود بسبب السدود التركية والإيرانية، وسوء الإدارة الداخلية لمصادر المياه. التقديرات الأممية تتحدث عن احتمال نزوح ملايين العراقيين خلال العقد القادم إذا استمر الجفاف وتملّحت الأراضي الزراعية، فيما الحكومة منشغلة بالمحاصصة وتوزيع المناصب أكثر من مواجهة أخطر تهديد وجودي في تاريخ الدولة الحديثة.

أما المجتمع، فقد جرى تفريغه من طاقاته المدنية عبر عسكرة ممنهجة، إذ تُنفق المليارات على الفصائل والميليشيات والقوات الرديفة التي تتكاثر تحت عناوين “الحشد” و”والميليشيات” وغيرها، لتتحول إلى عبء مالي وأمني، وتُهمّش الكفاءات المدنية والعقول الاقتصادية التي يمكن أن تبني الدولة لا أن تحرسها بالسلاح.

الاستثمار الذي كان يمكن أن يكون المنقذ، تحوّل إلى بيئة طاردة. المستثمر لا يجد ضمانات قانونية، ولا استقرارًا إداريًا، ولا أمنًا مستقرًا، بل شبكة معقدة من الفساد تتقاسم المشاريع كالغنائم، وهكذا، بقيت البلاد رهينة سعر البرميل، فإذا ارتفع تنفّست، وإذا انخفض اختنقت.

العراق اليوم يقف على فوهة مزدوجة: فوهة النفط التي تغذي الخزينة بالمال الزائل، وفوهة العطش التي تهدد حياة الملايين، وما بينهما سلطة سياسية عاجزة عن التخطيط، مشغولة بتقاسم السلطة بدل إنقاذ الدولة، إنها مفارقة مريرة؛ بلد يطفو على بحر من النفط، ويغرق في العطش والبطالة والفساد، وإن لم تتغير البوصلة نحو الإنتاج والاستثمار والحوكمة الرشيدة، فسينهار كل شيء، لا بانفجارٍ سياسي فقط، بل بانهيارٍ مائيٍّ واقتصاديٍّ وأخلاقيٍّ شامل.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…