زينه عبدي
مع مباشرة السلطات الانتقالية عملها في دمشق بعد هروب النظام السابق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ظهرت وبصورة مباشرة مؤشرات تؤكد على استمرارية العقلية المستبدة ذات المسلك العتيق في إدارة الملف السوري وقضاياه الوطنية ولا سيما ملف الكورد. حيث رفض دمشق اللقاء بقادة كورد ليس إلا تجاهلا لدعوات التفاوض والحوار، ما يعني أنه رسالة سياسية واضحة ذات طابع النفي لكل ما هو جامع ووطني.
وفي خطوة، ذي دلالات سياسية وثقافية شديدة الحساسية، أبرزت ملامح الإنكار مجددا لرمز قومي كوردي لدى صدور مرسوم تشريعي ذات الرقم/188/ لعام 2025 غُيب فيه الاعتراف الرسمي بعيد نوروز واعتبار يوم 21 آذار عطلة رسمية في سوريا. وقد تزامنت هذه الخطوات مع الاشتباكات الحاصلة أمس في حيي الشيخ مقصود والأشرفية، كاشفة مشهد الرفض والتوتر والاحتقان المتبادل، الأمر الذي يؤكد على أن عملية الانتقال السياسي السورية لا تزال مركونة في فضاء الإنكار الوجودي عوضا عن الحوار الوطني والتفاهم.
العزلة كخيار سياسي
من بين الدلالات الأكثر وضوحا في مسألة اللا حوار هي انتهاج التعامل السياسي الفذ من قبل السلطات الانتقالية مع القادة الكورد أو قوات سوريا الديمقراطية، فاللقاء بهم بشكل حقيقي وفعلي وليس بصورة شكلية لم يتم إلى اللحظة. وعلى الرغم من الوساطات التي تسعى جاهدة لخلق وتهيئة ظروف وأجواء تفاوضية وحوارية جدية، إلا أن دمشق تتمسك بموقفها الرافض لأية حوارات ذات نتائج مباشرة وحقيقية معزية ذلك للاعتبارات السيادية، ما يبرز أزمة ثقة حقيقية بين الجانبين وتعبير واضح عن سياسة الإقصاء والإنكار للشريك الكوردي داخل أرض الوطن، بل ويُعتَبر هروبا من الاستحقاق الوطني.
المفارقة الآن، أن وفدا كورديا يلتقي بالسلطات الانتقالية في دمشق عقب الأحداث التي شهدتها أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب يوم أمس، في خطوة تعكس مجددا فتح مساحة حوار بإطار غير رسمي بين الطرفين. هذا اللقاء الطارئ ما هو إلا تباين حاد داخل أطراف القرار السوري بين الانفتاح الحذر والإقصاء المتعمد. هذه الخطوات تطرح العديد من التساؤلات حول مدى جدية السلطة الانتقالية في دمشق التزامها وتعاونها لبناء سوريا المواطنة والشراكة الحقيقة وتحديد مسار العلاقة مع الطرف الكوردي على وجه الخصوص بمنأى عن حبس سوريا داخل سجالات وأطر ذهنية مزيفة تعود بها لزمن حكم البعث العفلقي والأسدي الانتقائي.
السياسة حين تخاف الرموز
وبينما ينتظر الشارع خريطة طريق حقيقية للمصالحة والشراكة الوطنية الجامعة عقب إعلان السلطة الانتقالية نواياها فيما يتعلق بالإصلاح السياسي الشامل للجميع دون إقصاء، إلا أن الإنكار لعيد نوروز الكوردي من صفحات الاعتراف الرسمية لدمشق، لم يكن مجرد مرسوما تشريعا أو قرارا إداريا، بل يعكس وبصورة متعمدة استمرار فكرة التهميش وذهنية الإقصاء كما السابق تجاه الشعب الكوردي، وخطوة محو هذا العيد وعدم الاعتراف به كعطلة رسمية في سوريا يبعث برسائل سياسية مزدوجة لا سيما أن نوروز لم يعد بمثابة تقليد ثقافي ورمز يعبر عن الفلكلور الكوردي، بل، كان، ولا يزال مؤشر ودلالة رمزية سياسية للوجود الكوردي وهويته بل وركيزة أساسية للمطالبة بالاعتراف الدستوري بكامل حقوقه المشروعة على الجغرافيا السورية برمتها.
لا تزال السلطة الانتقالية بدمشق تنتهج عقلية المركزية الصارمة في تعاملها مع الملف الكوردي وحقوقه السياسية والثقافية رغم إصدارها تصريحات وشعارات عن التفاهم والحوار المستمر. إن أي نموذج من نماذج الاعتراف بهوية الشعب الكوردي لا يزال مرهونا بموازين القوة، وهذا القرار الرئاسي يكمل صورة الدولة في رسم سياسة حازمة خانقة لاستقلالية أي ثقل كوردي سياسيا أو ثقافيا أو رمزيا.
عيد النوروز ليس مجرد طقس كوردي، بل جزء من ذاكرة شعب عانى عقود من الظلم والقهر، وجزء لا يتجزأ من وثيقة العقد الاجتماعي في ظل المرحلة الانتقالية الراهنة بل إحدى ركائزها الرئيسية.
الآفاق المستقبلية
في ظل المشهد الساسي السوري الراهن، فكرة الرفض لأي حوار وطني جامع ورسمي مع الكورد من قبل دمشق، ومحو عيدهم القومي من التقويم الرسمي لسوريا، والتوترات في حيي الشيخ مقصود والأشرفية الآهلين بالشعب الكوردي، جميعها تعكس اضطراب هيكلي في الفكر السياسي لدى السلطة الانتقالية. وإذا واصلت دمشق نهجها في فرض المركزية المقيتة، فإنها بذلك تنتج مرحلة أشد تعقيدا من سابقتها وتنسف كل ما يدعم المسار السياسي مع الكورد بغية إبقائهم خارج دائرة القرار والشراكة والحوار، وإيصال رسائل توحي بخطر الاختلاف لا سيما ثقافيا وسياسيا الذي تحاول السلطة الانتقالية احتواءه، وليس الاعتراف الرسمي به دستوريا وقانونيا.
من الصعب تحديد صورة المسار المقبل بين الكورد ودمشق في ظل المرحلة الانتقالية الحالية المرفقة بمزيد من العقبات الداخلية، إلا أنه ثمة فرص ضمن إطار محدود ولكنها أقرب للحقيقية وأبرزها استمرار اللقاءات والحوارات بين الطرفين ربما يمهد لتقريب وجهات النظر مستقبلا على المستوى السياسي بشكل محدود ولكن أعتقد أنها واقعية وحقيقية.
مراجعة دمشق سياسات تعاملها مع شركاء الوطن وخصوصا الكورد نتيجة التصاعد المتكرر للضغوط الإقليمية والدولية، توحيد الصف والموقف السياسي الكوردي قد يجبر دمشق خلال رحلة الحوار والتفاوض على الاعتراف الدستوري الذي لطالما غاب لعقود. ما يعني أن استمرار دمشق في التعنت وممارسة سياسة الرفض سيبقي مسار الانتقال السياسي هشا ومفرغا من محتواه لا سيما بعد الاحتقان الشعبي وحالة الولع في حيي الشيخ مقصود والأشرفية الذي ربما سيكون بداية أحداث جديدة على نطاقات واسعة في سوريا.
ستكسب السلطة الانتقالية في دمشق الشرعية الداخلية، عندما تبدأ بالاعتراف الرسمي والحقيقي بالشركاء على اختلاف انتماءاتهم وتعددهم، وخلاف ذلك ستُخلق أزمات جديدة أشد تعقيدا لن يكون بالإمكان السيطرة عليها، وبالتالي الدخول في دوامة العنف ولربما حدوث ثورة أخرى تعبر عن حرية الشعب الذي صمد على مدار ستين عقد من الزمن وهو يحارب بكل قواه في سبيل الحرية والعيش بأمان وكرامة.
في نهاية المطاف، كل ما ذكر ليس سوى إشارات تدل على ذهنية الإنكار والإقصاء. سوريا الجديدة لا يمكن بناءها بالسيطرة ورفض الآخر المختلف واغتصاب هويته والهيمنة على وجوده، بل البناء والانتقال الحقيقي يُبنى على الاعتراف والاحترام والاستمرار في خلق حوارات بناءة شاملة، وإلا ستستمر الصراعات والنزاعات الداخلية بين دمشق والأطراف وبين الرفض والاعتراف الدستوري والقانوني.