حوران حم
لم يكن المرسوم الجمهوري رقم (188) لعام 2025، المتعلق بتحديد الأعياد الرسمية والعطل القانونية في سوريا، مجرد ورقة بيروقراطية تُضاف إلى أرشيف الدولة؛ بل كان مرآةً عاكسة للعقلية التي لا تزال تحكم دمشق، تلك التي تنظر إلى البلاد من ثقبٍ ضيق لا يرى إلا ما تريده السلطة، لا ما يريده الوطن.
ففي الوقت الذي كان من المفترض أن يشكّل هذا المرسوم مناسبة لترسيخ مفهوم “الدولة الجامعة” التي تعترف بتعدد مكوناتها القومية والدينية والثقافية، جاءت بنوده لتعيد إنتاج الفكر المركزي القديم، وتؤكد أن “سوريا الجديدة” التي وعد بها الحكام الجدد ما زالت أسيرة فكر الإقصاء والتهميش ذاته الذي حكم البلاد لعقود.
سقطة سياسية أم نهج مقصود؟
عندما يغيب عن المرسوم أي ذكر لـ عيد النوروز، العيد القومي للشعب الكردي الذي يحتفل به ملايين السوريين في 21 آذار من كل عام، فإن المسألة لا يمكن اختزالها في “سهو إداري” أو “خلل تقني”.
النوروز ليس عيداً ثانوياً في وجدان الكرد، بل هو تعبير عن هويةٍ ضاربة في التاريخ، ورمز للحرية والانبعاث والتجدد، كما أنه عيدٌ للربيع تشارك فيه شعوب المنطقة كافة، من الفرس إلى الأكراد والآذريين والتركمان.
تجاهل هذا العيد، في بلدٍ يتحدث حكامه الجدد عن “سوريا المواطنة والمساواة”، هو إشارة واضحة إلى أن الذهنية التي تدير مؤسسات الدولة لم تتغير؛ فهي لا تزال تنظر إلى الكرد كـ “ملف سياسي”، لا كمكون وطني أصيل.
من عيد الأم إلى تغييب النوروز
من المفارقات المؤلمة أن يوم 21 آذار نفسه، الذي يحتفل فيه الكرد بعيد النوروز، جرى تثبيته في المرسوم كـ عيد للأم، وهو قرار قديم أعيد تثبيته دون مراجعة أو محاولة لتصحيح التاريخ الرسمي.
ذلك اليوم الذي أحرق فيه النظام في عام 2008 شعلة النوروز في قامشلو، ما زال محفوراً في ذاكرة الكرد كشاهد على القمع الثقافي والتمييز القومي.
والآن، بعد عقدين من الثورة السورية وما رافقها من وعود بـ “سوريا الجديدة”، نجد أن العقل السياسي ذاته الذي استبدل النوروز بعيد الأم لا يزال قائماً — يُعيد إنتاج نفسه بوجهٍ جديد، ولكن بالجوهر نفسه.
بين إلغاء الماضي وتثبيت الإقصاء
المرسوم الجديد ألغى بالفعل عدداً من المناسبات ذات الطابع البعثي والعسكري، مثل “عيد حرب تشرين” و”يوم الشهيد”، وهي خطوة حظيت بترحيبٍ شعبي، لأنها تعبّر عن محاولة طي صفحة الماضي الدموي الذي ارتبط بسياسات التمجيد الفردي.
لكن ما يثير الاستغراب هو الانتقائية في “تصحيح التاريخ”، إذ كيف يتم إلغاء رموز سلطوية مرتبطة بالنظام السابق، بينما يُبقى على تغييب عيدٍ قوميٍّ لملايين السوريين؟
هذا الانتقاء لا يمكن تفسيره إلا في سياق سياسة مقصودة تهدف إلى إبقاء الكرد خارج إطار “الهوية الرسمية للدولة”، وكأنهم مجرد ضيوف أو “مكون ثقافي” لا حق له في الوجود الرمزي.
الذاكرة الجريحة… من إحصاء 1962 إلى مرسوم 2025
من المؤلم أن يصدر هذا المرسوم في اليوم ذاته تقريباً الذي يصادف ذكرى الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة عام 1962، والذي جرّد أكثر من 120 ألف كردي من الجنسية السورية، في واحدة من أبشع سياسات التمييز التي مارسها النظام البعثي.
بعد أكثر من ستة عقود، لم يُلغَ ذلك الإحصاء المشؤوم بشكل قانوني واضح، ولم يُعتذر للدولة السورية عن تلك الجريمة الإدارية.
واليوم، يأتي هذا المرسوم ليضيف جرحاً رمزياً جديداً إلى ذاكرة شعبٍ لم يزل يعيش على هامش الاعتراف الوطني، وكأن القدر كتب عليه أن يُستثنى حتى من العطل الرسمية.
المطلوب شراكة لا منّة
إن معالجة هذا الخلل لا تكون بإضافة سطرٍ في مرسوم، بل بتغيير جوهري في بنية التفكير السياسي للدولة.
فالكرد لا يطالبون بامتيازٍ خاص، بل باعترافٍ بحقٍّ طبيعي في الوجود، وبمشاركة عادلة في صياغة هوية الدولة التي ساهموا في بنائها والدفاع عنها.
كان الأجدر بالسلطة الجديدة في دمشق أن تبدأ خطواتها بإعادة الثقة إلى المكونات الوطنية، لا أن تكرّس من جديد عقلية الإقصاء والتهميش.
تضمين عيد النوروز ضمن الأعياد الوطنية لم يكن سيضعف الدولة، بل كان سيقوّيها، لأنه كان سيحمل رسالة رمزية مفادها أن “سوريا تعترف بكل أبنائها”، وأن الوحدة الوطنية لا تُبنى بالإنكار بل بالاحتضان.
نحو مؤتمر كردي وطني جامع
لقد بات واضحاً أن الحل لا يكمن في انتظار اعترافٍ يأتي من فوق، بل في صياغة موقف كردي وطني جامع من الداخل، يقوم على وحدة الصف والتمثيل الشرعي.
إن الدعوة إلى عقد مؤتمر كردي سوري في دمشق، بمشاركة القوى والأحزاب والمستقلين، تمثل الخطوة الأكثر واقعية لتشكيل مرجعية كردية قادرة على الحوار مع الدولة والمجتمع الدولي معاً.
فمن دون هذا الإطار التمثيلي، ستبقى حقوق الكرد عرضة للانتقاص والمساومة، وستبقى مراسيم مثل المرسوم رقم (188) تمرّ كأن شيئاً لم يكن، في حين أن الجرح الكردي يزداد عمقاً في جسد الوطن.
إن إغفال عيد النوروز في المرسوم الرئاسي ليس مجرد تفصيل رمزي، بل دليل على خلل بنيوي في مفهوم الدولة السورية الحديثة، التي لم تتعلم بعد أن الاعتراف بالتنوع ليس ضعفاً، بل مصدر قوة.
ولعل الحكام الجدد في دمشق يدركون اليوم أن تجاهل الكرد لم يعد ممكناً في سوريا ما بعد الحرب، وأن تصحيح المسار يبدأ من أبسط الإشارات الرمزية، قبل أن يُطلب من الكرد الإيمان بشراكة لا يرونها في الواقع