حوران حم
في صباحٍ كئيبٍ من صباحات أكتوبر، حين كانت الشمس بالكاد ترسم خيوطها الأولى على جدران سجن “قزل حصار” في كرج، أُسدل الستار على حياة الشاب الكردي سامان محمدي خياره، بعد خمسة عشر عامًا من الأسر والمعاناة.
لكن ما انتهى في ذلك الصباح لم يكن حياة فردٍ فقط، بل فصلٌ آخر من ملحمة طويلة لشعبٍ لم يعرف سوى طريق المقاومة والكرامة، رغم كل أدوات القمع التي سخّرتها الأنظمة الإيرانية المتعاقبة منذ عقود.
سامان، ابن مدينة سنندج في قلب كردستان إيران، لم يكن سوى صوتٍ آخر في جوقة الأصوات المطالبة بالحرية والمساواة، غير أنّ صدى صوته تردّد في جدران الزنازين بدل أن يُسمع في ساحات الحرية.
اعتُقل بتهمٍ ملفقة، حوكم في محاكم الثورة الإيرانية التي لا تعرف من العدالة سوى اسمها، وصدر بحقه حكم الإعدام مرتين، كأنّ النظام أراد أن يقتل جسده مرتين ليكتم صوته للأبد.
خلال سنوات سجنه الطويلة، تعرّض سامان للتعذيب النفسي والجسدي، وعُزل عن العالم الخارجي، لكنه لم ينكسر؛ ظلّ متمسكًا بمبادئه، صامدًا كجبلٍ من جبال كردستان التي أنجبته.
إعدامه اليوم ليس حدثًا فرديًا، بل هو امتداد لتاريخٍ طويل من الاضطهاد الممنهج ضد الكرد في إيران. فمنذ سقوط جمهورية مهاباد عام 1946، لم تتوقف آلة القمع الإيرانية عن ملاحقة الكرد، سواء في المدن أو الجبال أو السجون.
ذاك الحلم القصير الذي مثّلته مهاباد بقي رمزًا يؤرق السلطة المركزية في طهران، لأنّه جسّد إرادة شعبٍ أراد أن يعيش حرًا على أرضه، فكان الرد دائمًا بالحديد والنار، بالسجون والمشانق، وبسياسة التذويب القومي التي لم تفلح رغم مرور أكثر من سبعة عقود.
من قاسم لوكماني إلى فرزاد كمانغر، ومن شهلا فرح إلى سامان محمدي، تمتد قائمة طويلة من الشهداء والسجناء السياسيين الكرد الذين قضوا في ظلام السجون الإيرانية.
كلّ واحدٍ منهم صفحة من سجلٍ أسود يكتب فيه النظام الإيراني تاريخه الدموي تجاه الأقليات، وبخاصة تجاه الشعب الكردي الذي ما زال يُعامَل كمواطن من الدرجة الأخيرة، بلا حقوق ثقافية أو سياسية أو اقتصادية.
السلطات الإيرانية لم تكتفِ بقمع العمل السياسي، بل حاربت الوجود الكردي ذاته؛ أغلقت المدارس الكردية، ومنعت تدريس اللغة الأم، وجرّمت أي نشاطٍ ثقافي أو مدني يحمل رمزية كردية.
حتى الجغرافيا لم تسلم من التنكيل؛ فجبال كردستان تحوّلت إلى مسرحٍ للاشتباكات الدائمة، وقرى بأكملها جرى تهجير سكانها بحجة الأمن القومي.
لكنّ المفارقة أنّ هذا القمع الممنهج لم يولّد الخضوع، بل أفرز جيلًا جديدًا من المقاومين الذين يرون في الحرية قدرهم الوحيد.
إنّ إعدام سامان محمدي خياره ليس سوى محاولة يائسة لإخماد هذا الوعي الجمعي الذي يسكن روح كل كردي. فالمشانق في إيران لا تقتل الفكرة، بل تُغذيها، وتحوّل الضحية إلى رمزٍ خالد.
من زنزانته الضيقة، كان سامان يرسل رسائل الأمل لرفاقه في الخارج، يؤمن أنّ الموت في سبيل الحرية ليس خسارة، بل ميلاد آخر في ذاكرة الأمة الكردية.
اليوم، وفي كل بيت كردي في سنندج، مهاباد، بوكان، سقز، ومريوان، ثمة شعور واحد يجتاح القلوب: أنّ الدم لا يُهزم.
إيران قد تُعدم الأفراد، لكنها لن تُعدم الفكرة الكردية التي وُلدت من رحم المعاناة وظلت تنبض رغم كل محاولات الإبادة الثقافية والسياسية.
تاريخ إيران الحديث، من الشاه إلى ولاية الفقيه، لم يتبدل في جوهره تجاه الكرد: لا اعتراف بالحقوق، لا شراكة في القرار، ولا مساحة للتعبير عن الذات.
لكنّ الكرد، بصلابتهم المتجذّرة، حوّلوا الألم إلى طاقة نضال، والسجون إلى مدارس للوعي، والشهداء إلى رموزٍ تُلهِم الأجيال.
في النهاية، قد يظنّ النظام الإيراني أنّه بإعدامه سامان محمدي سيغلق صفحة جديدة من صفحات النضال الكردي، غير أنّ دم سامان سيكتبها من جديد، بلغةٍ أصدق من كل الشعارات.
سيظلّ اسمه يتردّد في الأناشيد، في القصائد، وفي وجدان كل كردي حر، لأنّ قضية الحرية لا تموت بالإعدام، بل تبدأ منه.