النقد العادل والإصلاح الممكن: دفاع عن العمل السياسي الكردي

اكرم حسين 
تتعالى في أوساط مختلفة أصوات ناقدة للحركة السياسية الكردية، بعضها يحمل همّ الإصلاح والتغيير بصدق، وبعضها الآخر يكتفي بالجلد والتجريح وإطلاق الأحكام المطلقة، فتصف الأحزاب الكردية بأنها كيانات مصنوعة من قبل “الأعداء”، وأن قياداتها مجبرة على البقاء لا قادرة على المغادرة، وأن أتباعها مجرد “جوقة” من المنتفعين والباحثين عن “المال” و”المناصب” والدعم الاجتماعي، كما تذهب هذه الأصوات إلى اتهام الشعب الكردي نفسه بأنه شعب “منافق وانهزامي” لا يصلح إلا للتصفيق والركوع والرقص في المناسبات أو كتابة النعوات وترديد المراثي. هذا الخطاب، وإن كان يستند إلى مرارات واقعية وأخطاء جسيمة ارتكبتها الأحزاب الكردية ، إلا أنه في جوهره لا يعدو كونه سوى قراءة سوداء تنكر تاريخاً من النضال، وتبخس تضحيات مئات المناضلين، وتقدّم صورة مشوهة عن قضية عادلة دفعت أثماناً باهظة. فالأحزاب الكردية في سوريا لم تكن يوماً صناعة الأعداء كما يقال، بل نشأت من رحم الحاجة الملحّة لشعب محروم من أبسط حقوقه، مهدّد بلغته وهويته ووجوده القومي، فكان لابد من التعبير السياسي والتنظيمي عن تطلعاته، صحيح أن الأعداء حاولوا اختراقها وإضعافها وتوظيفها لصالح مشاريعهم، لكن هذا لا ينفي أن جذورها ضاربة في صميم المعاناة القومية والوطنية، ولو كانت مجرد دمى بيد الآخرين لما امتلأت السجون بعشرات القادة والكوادر، ولما اغتيل مشعل التمو ورفاقه، ولما تحملت هذه الأحزاب حصاراً وتشويهاً وحرماناً مستمراً. كما أن القول بأن كل الأعضاء والأتباع مجرد طامعين أو مصلحيين يتنافى مع حقائق النضال، ففي كل تنظيم سياسي في العالم هناك انتهازيون ومستفيدون، لكن في المقابل هناك مناضلون أوفياء دفعوا أعمارهم ثمناً للانتماء، وحملوا راية القضية بإيمان راسخ، ولولا هؤلاء لما بقيت شعلة النضال القومي الكردي متقدة حتى اليوم. إن الصورة التي تحاول بعض الأصوات رسمها، بأن الحركة الحزبية الكردية قائمة فقط على عبودية الأتباع وطبول الدراويش، إنما هي صورة مجتزأة تحاكم الكل بذنوب البعض، وتغفل عن آلاف الحالات الفردية والجماعية التي ضحت بصمت ودفعت أثماناً قاسية. أما الحلم بروج آفا أو الاعتراف بحقوق الكرد، فليس وهماً كما يصوّر البعض، بل هو امتداد طبيعي لحق الشعوب في تقرير مصيرها، هذا الحق الذي تكفله القوانين الدولية وتكرسه مبادئ العدالة. نعم، ربما أخفقت الأحزاب في تحقيق هذا الهدف حتى الآن، وربما تنازعت وتنافست بطرق غير صحية، لكنها مع ذلك ظلت الحامل السياسي لفكرة الوجود الكردي في سوريا، وبقاؤها في الساحة ليس مجرد خوف من خسارة مواقع، بل هو إدراك بأن غيابها يساوي غياب الصوت الكردي السياسي، ويعني ترك الميدان فارغاً أمام قوى أخرى لا تحمل هم الحقوق القومية. كذلك، لا يمكن اختزال التنافس بين الأحزاب كلها بأنه مجرد امتداد للعشائرية والروح الأغواتية، وإن كان لهذه العقلية حضور وتأثير، لكنها ليست التفسير الوحيد. فهناك صراعات برامجية، ورؤى مختلفة تجاه القضية السورية عموماً والقضية الكردية خصوصاً، وهناك أيضاً خلافات حول العلاقة مع الإقليم ومع المعارضة السورية ومع القوى الدولية. من الظلم أن نقول إن كل الخلافات هي صراع عشائري لا يقبل الهزيمة، فهذا تعميم يمسخ الحقائق ولا يساعد على فهم الواقع المركب للحركة السياسية. والأخطر من ذلك هو التوصيف الذي يطال الشعب الكردي نفسه بوصفه شعباً “منافقاً وانهزامياً”، فهذا حكم جائر يتناسى أن هذا الشعب قدّم آلاف الشهداء في ثورات كردستان العراق وتركيا ، وفي مقاومة كوباني، وفي الدفاع عن عفرين وسري كانيه، وفي مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي أذاقته القمع والتشريد لعقود طويلة. إذا كانت هناك مظاهر ضعف أو تراجع أو انقسام، فهي نتيجة طبيعية لعقود من القمع الممنهج، ونتاج مباشر لحرمان متواصل من أبسط حقوق الحياة الكريمة . 
النقد ضروري، بل واجب، ولكن النقد البنّاء والعادل هو ما يبحث عن سبل الإصلاح، لا ما يجلد الذات ويشوه التاريخ. صحيح تتحمل الأحزاب الكردية  وزراً كبيراً من الانقسام والضعف والتراجع، لكنها ليست وحدها المسؤولة، فهناك أنظمة سلطوية متعاقبة هدفت إلى تفتيت الصف الكردي، وهناك قوى إقليمية ودولية استباحت القضية الكردية لصالح مشاريعها، وهناك حرب أهلية سورية طاحنة جعلت أي مشروع سياسي عرضة للانكسار والتوظيف. ومن دون هذه البيئة المعقدة لما وصلت الأحزاب إلى ما وصلت إليه من ترهل وانقسام. برأيي ، الحل لا يكون باليأس ولا بالاتهام الشامل، بل بإعادة إنتاج العمل الحزبي على أسس جديدة، بفتح الباب أمام جيل جديد من القيادات، وإعادة الاعتبار للقيم الديمقراطية والشراكة الحقيقية داخل الأحزاب نفسها، والانتقال من خطاب التمجيد والتخوين إلى خطاب عقلاني واقعي يستند إلى المصلحة العليا للشعب الكردي ضمن سوريا جديدة تشاركية وديمقراطية.
 المطلوب اليوم ليس إعلان موت الأحزاب، بل بعثها من جديد، وتطوير أدواتها وخطابها وبرامجها لتستجيب لتحديات المرحلة، فالأحزاب هي الإطار الطبيعي لأي نضال سياسي، والمجتمعات التي تفقد أحزابها الحية تتحول إلى فراغ يسهل ملؤه بالاستبداد أو الفوضى أو القوى الغريبة. لذلك، فإن معركتنا ليست ضد الأحزاب بقدر ما هي معركة من أجل إصلاحها وتجديدها، وتحويلها من عبء على الشعب إلى رافعة حقيقية لقضيته ،  وبدلاً من أن نردد أن الأحزاب لم تنتج سوى شعب “منافق وانهزامي”، علينا أن نواجه الحقيقة: الأحزاب أخفقت في بعض جوانبها ونجحت في أخرى، والشعب الكردي لا يزال يملك طاقات هائلة من الصمود والإبداع والتضحية، والمستقبل لن يُبنى إلا إذا وُظفت هذه الطاقات في إطار سياسي ناضج ومتجدد. 
وبالتالي فان الحركة الحزبية الكردية، مهما شابها من علل وأمراض، لم تمت، ولن تموت، لأنها مرتبطة بجوهر قضية لم تُحل بعد. وقد تكون مثقلة بالأخطاء، لكنها تظل حتى الآن الحامل السياسي لآمال شعب يريد الحرية والكرامة والاعتراف بحقوقه ،  وإن نقدها واجب، لكن إنكار تاريخها وتشويه صورتها لا يخدم سوى أعداء الكرد.؟

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…