لسنا هفيركا 

درويش محما
من المؤسف أن يضطر المرء للكتابة في شؤون قبلية وعشائرية، وهي حقبة قديمة بالية، كنا نظن أنها قد طُويت صفحتها منذ زمن طويل، بما لها وما عليها.
لكن في الحقيقة، وبعد التأمل فيما يجري اليوم من نزعة متنامية لدى الكثير من الكرد بالتوجه نحو ظاهرة مؤسفة ومتخلفة وغير مدنية، الا وهي العودة إلى القبيلة والعشيرة والتنقيب عن الأمجاد في ماض قد ولى، فإن هذه الظاهرة، في جوهرها، طبيعية جداً في المجتمعات المتخلفة، إذ إن الأجيال الحالية الفاشلة، حين تعجز عن صناعة مجدها، لا تجد أمامها إلا التفاخر بتاريخ أجدادها.
نبش الماضي من قبل البعض والتشبث به، يدل على اليأس من الحاضر لدى هؤلاء، والإحباط من المستقبل؛ فيلوذون به لا حبا فيه، بل هربا من إخفاقات لم يستطيعوا مواجهتها، وتبريرا لفشل لم يجرؤوا على الاعتراف به.
لا أذكر على وجه الدقة متى قرأت مذكرات الخال جميل حاجو رحمه الله، لكني اتذكر جيدا انه ادعى ان “بونسرا” قبيلة هڤيركية. حينها أدركت أن الخال جميل قد وقع -على الأرجح- في خطأ كبير، ربما عن غير قصد، أو بسبب عدم الإلمام الكافي بحقيقة بونسرا وأهلها.
ورغم لقاءاتي المتكررة مع الخال فرهاد حاجو، نجل الخال جميل، وهو رجل فاضل، صاحب خبرة ودماثة خُلق، إلا أنني لم أرَ ضرورة أو أهمية آنذاك للحديث في شأنٍ قديم، رجعي، لا طائل منه. كما انه لا ضير في أن تكون على حلف مع رجل بقامة حاجو آغا وابنه الجد حسن حاجو آغا.
لكنني اليوم، وعلى الرغم من هجري للكتابة ونُدرة ما أسطره، أجد نفسي مضطرا للحديث عن علاقة أهل بونسرا -الذين أنتمي إليهم- بهڤيركا وعائلة اوصمان، والسبب في ذلك يعود إلى التحرك الأخير الذي قام به كل من الخال حزني حاجو بالتعاون مع السيد بطي يوسف بطي، وكلاهما ذو ميول “أبوجية” واضحة لا تخفى على أحد.
وهما يسعيان، في محاولة يائسة، إلى إحياء “اتحاد عشائر الهڤيركان”. والناس أحرار في توجهاتهم وميولهم، ولا خلاف في ذلك. لكن أن يُقحم أحدهم اسم بونسرا في هذا التحالف، دون وجه حق، ومن دون التواصل مع أهل بونسرا، وفي مقدمتهم كاتب هذه السطور، ومن دون معرفة حقيقية بتاريخها، فهذا أمر مرفوض، ومردود عليه، ولا يُعتد به.
لهذا أجد من الضروري أن أوضح بعض الحقائق حول بونسرا وأهلها، كي تكون -عزيزي القارئ- على بيّنة من حقيقة العلاقة بين بونسرا والهڤيركا.
يُقال، وتروى حكاية، اكرر تروى كحكاية لا كحقيقة مدعمة بالاثباتات، إن اهل بونسرا هم في الاصل أمراء عشيرة “شكاكا”، تمردوا على الدولة الصفوية قبل أربعة أو خمسة قرون، لكنهم خسروا المعركة، ولم يكن أمامهم سوى الفرار والاختفاء. وكانوا ثلاثة إخوة، أحدهم توجه إلى وجهة مجهولة، لا يُعرف عنه شيء، اما الثاني لجأ إلى كردستان العراق، والثالث، فقد انتهى به الحال في إمارة بوطان، متخفيا في بونسرا القديمة، الواقعة في اعلى قمة من سلسلة الجبال الممتدة شمال مدينة “جزيرة بوطا”.
اما التاريخ الحديث لأهل بونسرا، وهذا التاريخ موثوق بدلائل وشهود، يبدأ بهجرتهم من “بونسرا بوطا” في منتصف القرن الثامن عشر، بعد اقتتال نشب بينهم وبين أبناء عمومتهم، فتوجهوا غربا حتى وصلوا إلى قرية تُدعى “غورين”، في نهاية جبال باكوك، المطلة على مدينة نصيبين.
سكنوا كهوفها مع ماشيتهم لفترة قصيرة، حتى جاءهم سكان القرية المجاورة -التي كانت محصّنة ومطلة على وادي سيسبان- يشتكون من ظلم زعيمهم، ويعرضون عليهم الزعامة مقابل القضاء عليه.
وافق البونسريون على العرض، وكانوا ستة إخوة، فدعوا زعيم تلك القرية مع رجاله إلى وليمة كبيرة في إحدى كهوف غورين، وجلس كل منهم بجانب أحد الضيوف، وبعد تناول الطعام، قاموا بطعنهم بخناجرهم وقضوا عليهم.
هكذا، أصبحت القرية الجبلية المحصّنة بيد أهل بونسرا، وسمّوها “كلها بونسرا”، كما أطلقوا على وادي سيسبان اسم “دَحلا بونسرا”.
لكن لأنهم قضوا على رجل تابع لعائلة آل أحمد أغا سليمان، كبير منطقة أومريان، فقد استشاط زعيم هذه القبيلة غضبا، وتوعد بألا يُبقي حجرا في قلعة بونسرا إلا ويدحرجه نحو الوادي.
شنّ زعيم أومريان عدة هجمات على القلعة، لكنها باءت بالفشل، فكل مرة كان يقوم بالهجوم على “كلها بونسرا”، كان يحتمي هؤلاء ويختفون في احراش دحلا بونسرا الكثيفة. فنصحه أحد مستشاريه، بعد ان انهكته الغزوات المتكررة، أن يرمي حجرا من القلعة من احجار القلعة الحصينة نحو الوادي، للتخلص من الوعد والعهد الذي قطعه على نفسه، وهذا ما فعله زعيم عشيرة اومريان.
منذ ذلك الحين، اي قبل اكثر من ٢٥٠ عام، استتبّ الحكم بيد البونسريين على وادي بونسرا وقلعتها، وعلى منطقة تمتد من تخوم ديرا جومرا وسلطة آل خاشو شرقًا، وحدود قرية نبلة وسلطة شمكا شمالًا، وقرية عفرة وسلطة عليكا غربًا، حتى مشارف مدينة نصيبين جنوبًا.
استمرت سيطرة بونسرا على المنطقة المذكورة بلا منازع حتى وفاة أحمد محما سنة ١٩١٤، ليتولى القيادة من بعده ابن شقيقته، المرحوم حجي شيخموس، لكنه لم يكن بمستوى خاله في الكفاءة والحنكة والشجاعة، فبدأت زعامة بونسرا تضعف تدريجيا، حتى حلّت محلها زعامة آل حمو من عشيرة الجلالية، التي تقطن قريتي عَفرة وشانيشه، ولا تزال زعامتهم قائمة حتى اليوم.
أما أولاد أوصمان: حاجو، وبطي، وجلبي، وسرحان، فلم تكن لهم سلطة على مناطقنا في يوم من الأيام، لا انتقاصا من شأنهم، ولكنها الحقيقة بعينها وكما هي.
من أبرز المحطات التي يجدر ذكرها في هذا السياق، أن حاجو آغا كان على علاقة طيبة مع زعيم بونسرا أحمد محما، وكانا كريفين، وقد تُوجت تلك العلاقة بزواج جدي درويش -حفيد أحمد محما والوحيد المتبقي من سلالته- من كريمة حسن حاجو اغا، السيدة نجودة، رحمها الله.
أما العلاقة بين بونسرا وآل بطي من اولاد أوصمان، فهي علاقة طيبة أيضا، بدأت بزواج أحد أبناء عمومتنا من آل أوسي، وهو المرحوم حجي سلو، بأرملة المرحوم عليكى بطي الثانية، السيدة “أمينة شعبين”، من قرية هوبة، الواقعة على بعد ٢ كيلومتر شمال “كلها بونسرا”؛ وكان لعليكى بطي منها صبيّان صغيران، توفيا بالحصبة مع والدتهما بعد فترة قصيرة من زواجها بحجي سلو، والغريب في الامر، ان الكاتب ابراهيم محمود وهو يسطر تاريخ عليكى بطي في ثلاث مجلدات ضخمة، لم يأتي على ذكرها.
العلاقة الثانية بآل بطي كانت من خلال السيدة نجودة، كريمة حسن حاجو، التي زُوّجت بعد وفاة الجد درويش إلى المرحوم نذير بطي، رحمه الله، وأنجبت منه، ولنا علاقة طيبة معهم، وهم من خيرة الناس ولهم سمعة جيدة.
كما توجد رابطة أخرى بين أهل بونسرا وأولاد أوصمان، عبر حجي شيخموس -ابن أخت أحمد محما- الذي زوّج ابنه حسن من كريمة السيد حسين جلبي الدكشوري، المرحومة سيدة شاهيناز.
ومن الأحداث الجديرة بالذكر أيضا، واللافتة في تاريخ منطقة بونسرا، تذكر الروايات المحلية، غزوة قام بها أحد احفاد اوصمان على كلها بونسرا ذات الطابع الزراعي الغني لنهبها، وهنا اتحفظ على اسم الغازي تجنبا للاساءة لمشاعر احفاده، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل، أمام صمود أحمد محما، الذي واجه الغازي بكل تحدٍّ، مهددا إياه بالقول: “سألطخ ثوبك بروث حصانك.”
وقد اعترف الغازي لاحقا بقوة خصمه قائلاً: “لقد فعلها ابن هزيه”، وذلك بعد أن اضطر للفرار تحت وطأة بنادق رجال بونسرا، عبر المنحدر المعروف باسم “كليي شامو”.
أما العلاقة الأخرى التي تستحق الذكر، فهي لا ترتبط بأبناء أوصمان مباشرة، بل بشخصٍ إيزيدي من قرى”جرحا بنخته”، كان خادما ومواليا لآل حاجو. ونظرا لحساسية الموقف، أتحفَّظ هنا ايضا على ذكر اسمه. إذ إن نجله أصبح فيما بعد قياديا عسكريا في صفوف حزب العمال الكردستاني ب ك ك، وكان يحرّض السكان في بونسرا على الاستيلاء على الأراضي التي ورثها والدي عن أجداده، بل وصل به الأمر إلى محاولة فرض تقاسم واردات تلك الأراضي مع الحزب، ولم يفلح في مسعاه.
لقد واجه سكان بونسرا في تلك المرحلة مصيرا مشتركا مع معظم قرى المنطقة، إذ تباينت الخيارات بين الهجرة والفرار إلى المدن، أو البقاء في قراهم ومقاومة الظروف الصعبة بالسلاح للحفاظ على كرامتهم وارضهم ونمط حياتهم، فاختار أهل بونسرا البقاء، والدفاع عن أنفسهم وأرضهم.
وفي إحدى ليالي عام ١٩٩٦، شنّت مجموعة من قوات حزب العمال الكردستاني هجوما مباغتا على القرية، من ثلاث جهات، مستخدمة مختلف أنواع الأسلحة. استمر القتال قرابة ساعة كاملة، إلا أن أهالي بونسرا تصدّوا للهجوم باستخدام الأسلحة الخفيفة المتوفرة لديهم، وأثبتوا شجاعة نادرة في الدفاع عن قريتهم، رافضين مغادرتها كما فعلت بعض القرى الأخرى في المنطقة.
واخيرا وليس اخرا، كُن ابن من شئتَ واكتسب أدبا *** يُغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي
رحم الله من مضى، وأصلح حال من بقى.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زبير عبدالله
زبير عبدالله
2 شهور

بحثت في ذاكرتي ،وجدت ان درويش محما،فعلا نن بيت شاكرو،وخوالو بيت حاجو،وسبق ان اشتراه ابن المرحوم عبدالحليم خدام…

اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…