حوران حم
منذ أكثر من أربعة عشر عاماً، لم يهدأ المشهد السوري عن إنتاج المبادرات والوعود واللقاءات الدولية التي تُطرح على طاولة التفاوض، تارة في العواصم الإقليمية وتارة في المراكز العالمية الكبرى. آخر هذه الإشارات جاءت من واشنطن عبر مبعوثها إلى سوريا توم براك، الذي أعاد التأكيد على أن بلاده ترى في الحكومة المركزية الشاملة المخرج الأمثل للمأزق السوري، مستبعداً خيار الفيدرالية الذي طالما شكّل أحد أبرز مطالب القوى الكردية.
لكن السؤال الأبرز هنا: هل يمكن للكرد، ومعهم باقي الطوائف السورية، أن يقبلوا بالعودة إلى صيغة مركزية أثبتت التجربة التاريخية أنها لم تُنتج سوى التهميش والإقصاء؟ بعد أربعة عشر عاماً من الثورة، يصعب تصوّر أن السوريين الذين قدّموا أثماناً باهظة سيرضخون ببساطة لصيغة شبيهة بالماضي، حتى وإن جاءت تحت عباءة “الشمولية” و”حماية حقوق المكونات”.
التصريحات الأميركية، سواء من مبعوثيها أو من قياداتها السياسية، لم تعد تُقنع السوريين. فالتجارب أثبتت أن الوعود تبقى حبراً على ورق. تصريحات تارة من سلطة الشرع، وتارة من البيت الأبيض، وأخرى من جنرالات في البنتاغون، لكنها في جوهرها لا تخرج عن إطار إدارة الأزمة أكثر مما تسعى إلى حلّها جذرياً.
في المقابل، ما زالت تركيا تُشكّل عقدة أمام أي تسوية حقيقية. فكيف يمكن الحديث عن “سلام سوري شامل” بينما تحتفظ أنقرة بسيطرتها على عفرين وسري كانيه وتل أبيض؟ هذه المناطق لم تكن مجرد جغرافيا، بل هي رمز لمأساة السوريين جميعاً، حيث تحوّلت إلى ساحات تغيير ديموغرافي وتهجير قسري. الحديث عن حكومة جامعة لا يكتمل ما لم يُعلن عن انسحاب تركي واضح وصريح من الأراضي السورية، وإلا فإن كل حديث عن الاستقرار لن يتجاوز حدود الشعارات.
أما من الجانب الأميركي، فقد ظهر جلياً أن لقاء الرئيس السابق دونالد ترامب مع رجب طيب أردوغان كان محطة مفصلية. وصف ترامب اللقاء بأنه “أكثر من رائع”، وهو ما أثار تساؤلات جدّية حول جدّية واشنطن في حماية المكونات السورية، وعلى رأسها الكرد، الذين يواجهون التحديات الكبرى في ظل استمرار الوجود التركي. التوافق الأميركي – التركي بدا وكأنه يرسم حدود التسوية المقبلة، لكن على حساب السوريين أنفسهم.
إلى جانب ذلك، كشفت زيارة أحمد الشرع إلى واشنطن عن اتفاقيات غير مُعلنة، وملفات عُولجت بعيداً عن أعين الإعلام. كثير من هذه التفاهمات تتعلق برفع العقوبات عن دمشق، مع استثناء شخصيات متورطة في جرائم حرب. هنا يتضح أن الملف السوري لا يُدار من زاوية العدالة والحقوق، بل من زاوية التوازنات والمصالح الدولية. فما يهم واشنطن ليس محاسبة من ارتكب الجرائم، بقدر ما يهمها الحفاظ على خطوط التوازن مع موسكو، أنقرة، وطهران، وضمان استقرار مصالحها في المنطقة.
المكونات السورية الأخرى – من الدروز إلى العلويين، مروراً بالمسيحيين وسائر الأقليات – تبدو وكأنها عالقة بين مطرقة الوعود الدولية وسندان الصراع الداخلي. فكل طرف يتحدث باسمها، لكن أحداً لا يضع ضمانات واضحة لمستقبلها. حتى الكرد، الذين يُفترض أنهم الحليف الأبرز للولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، باتوا يسمعون أكثر مما يرون. تُمنح الوعود، لكن على الأرض لا تزال المخاوف أكبر من الضمانات.
المشهد إذن يبدو وكأنه يعيد نفسه: وعود أميركية، مناورة تركية، حسابات روسية، وأحلام سورية تتآكل ببطء. وبين كل ذلك، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن بعد كل هذه السنوات أن تُفرض صيغة مركزية جديدة تُقنع السوريين بالقبول، أم أن الجروح التي خلفتها التجربة السابقة أعمق من أن تُشفى بالتصريحات واللقاءات الدبلوماسية؟
ما يتضح حتى اللحظة أن واشنطن تتحرك وفق منطق “إدارة الملف” لا “حلّه”، وأن تركيا تواصل ابتزاز الجميع عبر وجودها العسكري، فيما تُبقي دمشق على سياسة الانتظار والترقب. أما السوريون – كرداً وعرباً ودروزاً وعلويين ومسيحيين – فما زالوا يبحثون عن صيغة تُنهي عذاباتهم وتضمن لهم وطناً لا يُدار فقط من خلف الأبواب المغلقة في العواصم البعيدة.