عبدالرحمن كلو
لم يكن مؤتمر قامشلو مجرّد لقاء عابر بين طرفين متخاصمين في الساحة الكوردية، بل كان خطوة نوعية تُلامس أفقًا سياسيًا أوسع بكثير من مجرد “اتفاق ثنائي”.
فبرعاية أمريكية وفرنسية، وبإشراف مباشر من الرئيس مسعود البارزاني، تمكّن المؤتمر من جمع طيف متنوع من القوى، لا يقتصر على المجلس الوطني الكوردي أو الإدارة الذاتية، بل شمل شخصيات وطنية مستقلة، وتيارات مدنية غير حزبية، الأمر الذي منح المؤتمر صفة التمثيل الواسع، وأضفى عليه طابعًا وطنيًا يتجاوز الاصطفافات التقليدية.
لكن، ومنذ اليوم التالي لانعقاده، برز التململ في كلا المعسكرين التقليديين:
فتيار قنديل في الـ P.Y.D وبعض مفاصل “الإدارة الذاتية” لم يتقبّل المؤتمر بصيغته الجديدة، لا لمضمونه، بل لكونه جرى خارج حسابات قنديل وأجنداته الخارجية؛ وفي المقابل، أبدى التيار الموالي لتركيا داخل المجلس الوطني الكوردي رفضًا مبطنًا للمؤتمر، لا لأن مخرجاته تفتقد للشرعية، بل لأن المشروع الأمريكي لا ينسجم مع الخيارات الجيوسياسية التركية.
ولا يمكن هنا تجاهل حقيقة أن المجلس الوطني الكوردي، الذي يُفترض أن يمثل تيارًا سياسيًا معارضًا للإدارة الذاتية، كان في مشهد عفرين شاهد زور على جميع ممارسات الميليشيات الموالية لتركيا، وشرعنها بالصمت والتجاهل، كما لم يُحرّك ساكنًا إزاء ما جرى في سرێکانیێ (رأس العين).
ولهذا، فإن التعويل عليه كطرف منفرد دون ضغط خارجي واضح من الولايات المتحدة أو إقليم كوردستان، يُعدّ رهانًا خاسرًا.
ومع أن الطرفين لم يظهرا معارضتهما علنًا، نظرًا للثقل الدولي، والدور الرمزي الكبير للبارزاني، إلا أن مواقفهما الهامسة والمتأرجحة سرعان ما تحوّلت إلى تحركات ملموسة، حين دخلت تركيا على خط الأزمة، محاولةً تفكيك هذا المنجز التوافقي من الداخل، عبر أدواتها المحلية وشبكتها الأمنية المعروفة لدى الطرفين.
ومن أجل هذا الهدف، تغيّر لون الخطاب السياسي ودخل في حالة من الانفعال، خصوصًا عند الحديث عن “قسد”، أو عن الـ P.Y.D، أو أذرع الـ PKK، أو حتى عن أحزاب الـ PYNK.
ولم يكن هذا الخطاب سوى إعادة إنتاج لحسابات حزبية ضيّقة تُشبه منطق الدكاكين السياسية؛ فالقضية الكوردية في سوريا ليست تركةً يمكن تقسيمها وفق ميزان الغنائم، بل هي قضية شعب بأكمله، وليست ساحة لتصفية الحسابات بين التيارات.
وفي هذا السياق، لا بدّ من التذكير بأن ال PKK، بكل امتدادات منظومته السياسية والعسكرية والإدارية، لم يعترف يومًا بالجغرافيا السياسية أو البشرية للكورد في سوريا، بل بقيَ يتعامل مع الميدان الكوردي – في سوريا كما في العراق – كأداة تفاوضية لتثبيت شكل من أشكال وجوده، غالبًا عبر صفقات مع “الآخر”، أيًّا كان هذا الآخر، باستثناء الشراكة الحقيقية مع الكورد أنفسهم.
وهذا السلوك لا ينفصل عن استراتيجية أعمق تخدم الدولة العميقة في تركيا التي تسعى، بدورها، إلى تفتيت الحالة الكوردية من داخلها.
لهذا، فإن الكونفرانس لم يكن ملكًا لفريق بعينه، بل أصبح قاعدة سياسية متينة، وخطًا استراتيجيًا دفاعيًا أول، في تبنّي رؤية حلٍّ شامل للقضية الكوردية في سوريا.
وتقويض هذا المنجز التاريخي، تحت أي مبررٍ كان، هو خيانة وطنية قبل أن يكون خيانة للموقف، وهو تفريط علني لصالح الاستخبارات التركية تُجنى ثماره في أنقرة وحدها.
من هنا، فإن أي محاولات لإجهاض مؤتمر قامشلو – سواء تحت مسمى “التمثيل الحصري”، أو “حق الرد”، أو “التوازن السياسي” – ليست سوى محاولات لتنفيذ الأجندة التركية، عبر تحويل مخرجات الكونفرانس إلى مجرّد حلقة جديدة في مسلسل النزاعات الحزبية التي استنزفت القضية الكوردية لعقود.
وعليه، فإن حماية هذا المنجز التاريخي لا ينبغي أن تُختزل كمسؤولية سياسية عابرة، بل يجب أن يُصان بوصفه ركيزة من ركائز العمل الكوردي المشترك، ومسؤولية استراتيجية تعادل في أهميتها حماية الجغرافيا والهوية والمشروع القومي الكوردي برمّته.
Aachen 17.09.025