عبدالباقي اليوسف
تمثل الدعوة التي وجهتها الحكومة السورية الانتقالية إلى قيادة المجلس الوطني الكردي للالتقاء مع رئيسها، أحمد الشرع، في دمشق، تحولاً سياسيًا لافتًا في المشهد السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد. هذه الدعوة، على نقيض محاولات سابقة بذلها المجلس الوطني الكردي، عبر شخصيات من لجنة العلاقات الخارجية، للقاء الشرع أو مقربين منه مثل أسعد الشيباني، والتي باءت بالفشل رغم الوساطات ، تثير تساؤلات جوهرية حول الأسباب الكامنة وراء هذا التحول. فبينما فشلت لجنة الحوار الكردي التي انبثقت من المؤتمر الوطني الكردي في القامشلي في أبريل الماضي في الحصول على دعوة مماثلة، والتي نصفها من قيادات المجلس الوطني الكوردي، تتجه الدعوة اليوم بشكل حصري إلى المجلس الوطني الكردي. إن هذا الفارق في التعامل يُشي بأن الدعوة ليست مجرد خطوة نحو المصالحة، بل هي مناورة سياسية معقدة تستهدف أهدافاً أبعد من مجرد الحوار.
1 استهداف وحدة الصف الكردي ورسالة إلى قوات سوريا الديمقراطية
يكمن أحد الأهداف الرئيسية لهذه الدعوة في تفكيك وحدة الصف الكردي الهشة، وإرسال رسالة مباشرة إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد). إن رفض الحكومة الانتقالية التعامل مع الوفد المنبثق عن المؤتمر الوطني الكردي الذي جمع أطيافًا واسعة من القوى الكردية، بما فيها المجلس الوطني نفسه، يؤكد أن الهدف ليس حوارًا شاملًا، بل هو اختيار طرف بعينه. تسعى دمشق، من خلال هذا الانتقاء، إلى إضعاف خصومها الرئيسيين في شمال شرق سوريا، وفي مقدمتهم قسد، التي تسيطر على المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية، كالنفط والزراعة.
إن جوهر هذه الاستراتيجية هو الضغط على قسد لتقديم تنازلات. الرسالة واضحة: إذا لم تقبل قسد بشروط الحكومة الانتقالية، فإن دمشق قادرة على إيجاد “بدائل” من بين الكرد أنفسهم، بشروط أبسط. هذا التكتيك يستغل الانقسامات التاريخية بين الأطراف الكردية ، ويُظهر أن الحكومة الانتقالية تسعى إلى فرض سيطرتها على المنطقة الاستراتيجية بأبخس الأثمان، عبر إثارة الفتن الداخلية بدلاً من خوض مواجهة عسكرية شاملة.
2 سعي الحكومة الانتقالية لترسيخ شرعيتها
على الرغم من الدوافع التفكيكية، فإن الدعوة تحمل في طياتها هدفًا إيجابيًا للحكومة الانتقالية نفسها. فهي محاولة لإظهار أن الحكومة الجديدة، بقيادة أحمد الشرع الذي تحوّل من قائد عسكري إلى رئيس مدني ، تحظى بدعم وتأييد واسع النطاق، وأنها تمثل كافة أطياف الشعب السوري.
من خلال لقاء ممثلين عن المجلس الوطني الكردي، تسعى الحكومة الانتقالية إلى تقديم نفسها ككيان جامع قادر على تجاوز الانقسامات العرقية والسياسية، مما يعزز من شرعيتها على الساحة الدولية. هذا الإجراء ضروري لتفكيك المطالب التي تدعو إلى مشاركة حقيقية لجميع المكونات، خاصة الشعب الكردي، في بناء سوريا المستقبل، وضمان أن البلاد ستبقى دولة موحدة تحت سلطة مركزية واحدة. إن الدعوة إلى المجلس الوطني تحديداً، والذي كان قد قبل في حوارات جنيف السابقة بالدولة اللامركزية الإدارية وقاعدة “حقوق المواطنة” ، تمكن دمشق من حصر النقاش في إطار “المواطنة المتساوية” و”وحدة الأراضي”، بعيدًا عن أي مطالب فيدرالية أو حكم ذاتي قد تثير قلق الأطراف الإقليمية.
3 الدور التركي: خلف الأبواب المغلقة
لا يمكن قراءة هذه الدعوة بمعزل عن الدور التركي المتزايد في المشهد السوري الجديد. فبعد انهيار نظام الأسد، تواجه الحكومة الانتقالية ضغوطًا تركية متزايدة بسبب عدم قدرتها على الاستجابة الكاملة لمتطلبات أنقرة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع القوى الكردية في الشمال. يضاف إلى ذلك، التقارب المحتمل بين الحكومة السورية الجديدة وإسرائيل، والذي قد يؤثر على النفوذ التركي في سوريا.
في هذا السياق، تأتي تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن “تركيا هي الضامن لأمن وسلامة الكورد في تركيا وسوريا… ومن يتجه نحو أنقرة ودمشق هو الرابح”. هذه التصريحات، التي تبعها إعلان وزير الخارجية هاكان فيدان هذه الفكرة، كاشفًا أن “العديد من الأحزاب الكوردية الصديقة لتركيا في سوريا”، في إشارة إلى المجلس الوطني الكوردي (ENKS)، قد تواصلت مع أنقرة طالبةً المساعدة، تزيد من احتمال أن تكون تركيا لها دور رئيسي في ترتيب هذا اللقاء. إذا قبل المجلس الوطني الكردي الدعوة وتفرد بالحوار، فإنه سيكون بذلك قد استجاب للسياسة التركية الهادفة إلى تفتيت الموقف الكردي الموحد.
4 المجلس الوطني الكردي فريسة سهلة في لعبة الكبار
في خضم هذه المعركة السياسية، يجد المجلس الوطني الكردي نفسه في موقف بالغ الحساسية. فالمجلس، الذي لا يمتلك أي قوة عسكرية على الأرض، لم يعد له أرضية شعبية قوية في كردستان الغربية، ما يجعل سمعته في الحضيض. في ظل هذه الظروف، لا يمكن للمجلس أن يتوقع تحقيق مكاسب حقيقية للشعب الكردي من خلال حوار منفرد مع دمشق.
إن قبول المجلس بالحوار بمعزل عن الوفد الموحد الذي تم تشكيله في القامشلي، قد لا يكون خطوة نحو الحل، بل قد يكون فخاً يهدف إلى إضفاء الشرعية على الحكومة الانتقالية مقابل مكاسب شكلية، مما يؤدي في النهاية إلى شق الصف الكردي وخدمة أجندات إقليمية. إن غياب المجلس عن حضور مراسم إعلان الحكومة الانتقالية بسبب “عدم التشاور” ، يوضح أن الحكومة الجديدة تتعامل مع المجلس باعتباره ورقة يمكن استخدامها، وليس شريكًا حقيقيًا في بناء الدولة.
إن دعوة الحكومة الانتقالية للمجلس الوطني الكردي للالتقاء في دمشق هي أكثر من مجرد بادرة حسن نية. إنها خطوة محسوبة بعناية، تهدف في المقام الأول إلى تفكيك الخصوم، وترسيخ السلطة الجديدة، واسترضاء حلفاء إقليميين مثل تركيا. في المقابل، يجد المجلس الوطني الكردي نفسه أمام خيار صعب: إما أن يستجيب لهذه الدعوة، ويخاطر بأن يصبح أداة في يد قوى أكبر لتحقيق أهداف لا تخدم مصالح الشعب الكردي، أو أن يرفضها ويتمسك بالعمل المشترك ضمن إطار موحد، مهما كان هذا الإطار هشا. إن هذا اللقاء، إن تم، سيكون بمثابة اختبار حقيقي ليس فقط لقدرة دمشق على تحقيق المصالحة، ولكن أيضًا لقدرة المجلس الوطني الكردي على حماية مصالح الشعب الذي يزعم تمثيله في مرحلة تاريخية بالغة التعقيد.
9 سبتمبر 2025