الكورد في سوريا نصف قرن من الانقسام ولا زال السؤال نفسه

حوران حم 
منذ اللحظة الأولى التي تشكلت فيها النواة السياسية الكوردية في سوريا منتصف القرن الماضي، حملت معها بذور التحدي وبذور الأزمة معاً. التحدي كان نابعاً من شعور قومي صادق، وإرادة واضحة للتعبير عن هوية الشعب الكوردي وحقوقه. أما الأزمة، فتمثلت في غياب الرؤية الجامعة والانغماس في انقسامات داخلية أضعفت المسار وأفقدت الحركة بريقها أمام جماهيرها.
لم يكن غريباً أن ينشطر أول حزب كوردي في سوريا إلى أكثر من جناح في سنواته الأولى، ليؤسس بذلك قاعدة انقسامية صارت لاحقاً سمة ملازمة للحركة الكوردية. فبدلاً من التراكم السياسي والبناء على المكتسبات، كانت الانشقاقات هي التي تتراكم، حتى غدا المشهد الحزبي الكوردي لوحة فسيفسائية مبعثرة. ومع مرور الوقت، تضخمت هذه الظاهرة؛ إذ تأسست أحزاب بأسماء مختلفة وبرامج متشابهة، وانشغلت قياداتها بالخلافات الداخلية أكثر مما انشغلت ببلورة مشروع قومي متماسك.
في العقود الأخيرة، شهدنا ولادة العديد من المجالس الكوردية، بعضها وُلد استجابة لضغط الشارع، وبعضها نتيجة تحالفات ظرفية. لكنها جميعاً بقيت بلا مشروع سياسي متكامل. كانت أقرب إلى ردّ فعل على أزمة قائمة، أكثر مما كانت تعبيراً عن رؤية استراتيجية. ولهذا، لم تصمد أمام التحديات، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى ساحة خلافات جديدة.
في ظل هذا الانقسام الحزبي، برز المستقلون ـ من شخصيات اجتماعية وكتّاب ومثقفين ـ كأكثر الأصوات إيجابية. دعوا مراراً إلى عقد مؤتمر كوردي جامع يضع حداً للتشرذم، ويؤسس لوحدة الموقف. لكن الأحزاب كانت لهم بالمرصاد، ترى في هذه الدعوات تهديداً لمصالحها، فتصدّت لها وسعت لإفشالها. وهكذا، ضاعت فرص تاريخية كان يمكن أن تفتح باباً جديداً أمام الكورد في سوريا.
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، بدا وكأن الفرصة التاريخية قد عادت للكورد من جديد. فالنظام السوري كان مأزوماً، والمشهد الإقليمي مفتوحاً على احتمالات واسعة. لكن الحركة الكوردية دخلت الثورة مثقلة بإرثها القديم من الانقسامات. لم تستطع الأحزاب أن تقدم خطاباً موحداً داخل صفوف المعارضة السورية، ولم تنجح في بلورة رؤية قومية واضحة، مما جعلها تتأرجح بين الولاءات الإقليمية والمواقف الرمادية. وهكذا، تحولت القضية الكوردية إلى ورقة على طاولة اللاعبين الكبار، تُدار من الخارج أكثر مما تُدار من الداخل.
كونفرانس 26/4/2025… الأمل والخذلان
عندما عُقد “كونفرانس وحدة الصف والموقف الكوردي” في 26 نيسان 2025، اعتبره كثيرون بارقة أمل. فهو جمع بين الحزبين المستحوذين على القرار السياسي الكوردي: حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) و الحزب الديمقراطي الكوردستاني في سوريا (PDKS). لكن المؤتمر انعقد بغياب معظم الأحزاب الأخرى والمستقلين، وهو ما قلل من شمولية نتائجه. ومع ذلك، تم استقبال مخرجاته بترقب إيجابي، لأن الناس كانت عطشى لأي خطوة توحد الصف. غير أن ما تلا ذلك كان مخيباً: تصريحات متناقضة، ومواقف متذبذبة، والتفاف على جوهر الاتفاق. ما بدا أنه مشروع لتوحيد الصف تحول إلى ورقة تفاهم شكلية، سرعان ما أُهملت.
حين تخرج المطالب السياسية من أي طرف عن مخرجات الكونفرانس ـ صعوداً أو نزولاً ـ فإن ذلك لا يعني اجتهاداً سياسياً، بل نسفاً كاملاً لروح الاتفاق. فالتجارب السابقة علمتنا أن غياب الالتزام الجماعي يفتح الباب واسعاً أمام التدخلات السياسية والأمنية، وأن أي تلاعب بالمخرجات لا يجلب سوى مزيد من الانكسارات والتشتت.
اليوم، يقف الشارع الكوردي أمام سؤال مصيري: هل نستمر في دوامة الانقسامات التي ابتلعت أكثر من نصف قرن من نضالنا؟ أم نتمسك بوحدة الصف كشرط للبقاء والنهضة؟ الجواب واضح: لا مستقبل للكورد بلا وحدة الموقف. قد لا تكون مخرجات الكونفرانس مثالية، لكنها تشكل الحد الأدنى من التوافق الذي يمكن البناء عليه. أما التلاعب بها أو الانقلاب عليها، فلن يقود سوى إلى المزيد من التشرذم.
إن وحدة الصف ليست مجرد شعار، بل هي الخيار الوحيد الذي يضع حداً لعقود من الإخفاقات. فالتاريخ لن يرحم من يكرر الأخطاء، والجماهير لن تغفر لمن يجعل مصيرها رهينة مصالح حزبية ضيقة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…