حوران حم
منذ قرون طويلة، ظلّت شعوب الشرق الأوسط تعيش تحت رايات كبرى تتبدل ألوانها وأسماءها، لكنها تحمل جوهرًا واحدًا: السيطرة باسم “الوطن” أو “الدين” أو “الأمة”. وما تغيّر عبر الزمن لم يكن سوى الراية واللغة المستخدمة لتبرير إخضاع الشعوب.
في ظل الدولة العثمانية، كان مفهوم “الوطن” غائبًا. الرعية كانت تُدار باسم “دار الإسلام”، بينما الأرض وما عليها ملك للسلطان. لم يكن الفلاح الكردي أو العربي أو الأرمني يملك من الوطن سوى ما يُفرض عليه من ضرائب وجندية إجبارية. ثم جاء الاستعمار الأوروبي ليُعيد إنتاج الفكرة، فرسم الحدود بخطوط مستقيمة على الخرائط، وأقنع الشعوب أن هذه الحدود “أوطان” تستحق الموت من أجلها. هكذا وُلدت دول بحدود وهمية، دون أن تُبنى أوطان حقيقية.
من القومية إلى الدكتاتورية: الأوطان كمعسكرات
مع صعود الأنظمة القومية في منتصف القرن العشرين، تحولت الأوطان إلى معسكرات كبرى. غُلفت السلطة بالشعارات الوطنية، وصار الحاكم هو “الأب” و”القائد الخالد”، وصار الوطن يتجسد في شخصه. وعندما كان الناس يعترضون، كانت التهمة جاهزة: “خيانة الوطن”. ماتت أجيال تحت شعارات المقاومة والتحرير، بينما كانت الأرض تُباع في صفقات سرية، وتُنهب الثروات لصالح العائلات الحاكمة.
اليوم، وبعد كل هذه الدورات التاريخية، نجد أنفسنا أمام المشهد ذاته لكن بوجوه جديدة. الدروز يُتهمون بالخيانة لأنهم اضطروا لعلاقات مع إسرائيل، والكرد يُشيطنون بسبب تحالفاتهم مع أمريكا، في حين يُغض الطرف عن تبعية فصائل بأكملها لتركيا أو إيران. أصبح معيار “الوطنية” مرهونًا بالجهة الراعية: إذا رفعت علم إسرائيل فأنت خائن، وإذا رفعت علم تركيا فأنت وطني.
وفي الوقت ذاته، نجد أن السعودية ترفع راية “الإصلاح” وهي تلمّع صورة متطرفين ، وقطر تُدير آلة إعلامية ضخمة لتبرير هذا التلميع. الإعلام الذي يُفترض أن يكون صوت الناس صار بوقًا للسلطة، والشعوب تحولت إلى متلقٍ سلبي يصفق للوهم.
الماغوط وصوت الحقيقة
محمد الماغوط لم يكن بحاجة إلى قراءة كتب السياسة ليدرك أن الوطن في هذه البنية ليس إلا كذبة. حين قال إن الوطن لا يستحق أن نموت من أجله إذا لم يوفر لنا بيتًا وقوت يومي، كان يصف الحقيقة المجردة. الفقراء يموتون على الجبهات، بينما يجلس القادة على موائد التفاوض. الدماء تُسكب في الخنادق، بينما تُوزع الغنائم في الفنادق.
الخيانة ليست في رفع علم هنا أو هناك، وليست في التحالف مع قوة دولية أو إقليمية. الخيانة الحقيقية أن يُترك المواطن جائعًا مشرّدًا بينما يُطلب منه أن يموت “من أجل الوطن”. الخيانة أن يُختزل الوطن إلى شعارات جوفاء، وأن تتحول حياة الناس إلى مجرد أدوات بيد الحكام
الوطن الحقيقي ليس الحدود التي رسمها الاستعمار، ولا الرايات التي تُرفع فوق المقرات، ولا الشعارات التي تُلقّن في المدارس. الوطن حيث تتوفر مقومات العيش الكريم: بيت يأوي، خبز يطعم، وكرامة تحفظ. كل ما عدا ذلك ليس وطنًا، بل سجنًا كبيرًا، أو معسكرًا للموت.
هكذا، عبر كل التحولات التاريخية، يتضح أن “الوطن” كان دائمًا أداة بيد السلطة، وليس قيمة إنسانية حقيقية. وحين يُطلب من الناس التضحية، فذلك من أجل بقاء النخب، لا من أجل بقاء الوطن. ولهذا، فإن أصعب أشكال الخيانة ليست تلك التي نُتهم بها، بل تلك التي تُمارسها الأوطان نفسها ضد شعوبها.