هل سنكون شهودًا على تغيير قادم في سوريا؟

إبراهيم اليوسف

 

سوريا، اليوم، تمر بمرحلة هي الأكثر حساسية في تاريخها المعاصر. السنوات الطويلة من الحرب والدمار، والظلم الذي تفشى في كل زاوية من هذا الوطن، جعلت التغيير أمرًا حتميًا. إلا أن السؤال الأهم اليوم: هل  حقاً أننا  الآن في آخر محطة لما قبل التحول؟ هذا التحول، الذي يأمل السوريون في أن يكون بعيدًا عن قبضة النظام الدموي أو أدوات القتل والدمار التي مارستها قوى الإرهاب، هل هو في الأفق؟

سوريا: ضرورة التحول والتغيير

بداية، لا بد من القول إنه لا يمكن لسوريا المستقبل أن تنبني إلا إذا توافرت الإرادة الشعبية الجادة، وإذا تم تجاوز كل أشكال الهيمنة والاحتلالات. ليس التغيير في سوريا مجرّد تبديل أشخاص أو أسماء، بل هو إعادة بناء للإنسان والروح السورية التي لطالما كانت جزءًا من التاريخ. إن التغيير الحقيقي لا يتحقق إلا بتغيير جذري في النظام السياسي، وبثقافة جديدة أساسها التسامح والعدالة.

لكن في الواقع، يتحدث بعضهم عن “التغيير العظيم” الذي سيحل قريبًا، رغم أن التفاؤل قد مات لدى العديد من السوريين. ما يحدث اليوم هو أن أمل التغيير تلاشى في ظل الصمت الدولي والمجازر المستمرة. هذه “الطبخة” التي تُحضر على نار هادئة، باتت تُحاك بطرق معقدة وخفية، ومع ذلك يبقى السؤال: من سيتولى قيادة سوريا في هذه المرحلة الانتقالية؟ هل سيكون من هو نظيف اليدين، بعيدًا عن تلوث دماء الشعب؟

الأنباء الواردة: إفراغ حلب من الكرد والعلويين والمسيحيين:

أحدث الأنباء الواردة تشير إلى أن حلب تُفرغ تدريجيًا من الكرد والعلويين، والمسيحيين- على نحو تدريجي- ضمن خطة، تمهيدًا لتسليم المدينة لتركيا. هذا ما يبدو لأول وهلة، ولكن الأغرب من ذلك هو الصمت الإعلامي الكردي. كيف يُمكن السكوت على ما يحدث في مدينة تعتبر  رئة لمئات الآلاف من الكرد في سوريا لاسيما بعد احتلال مدينة عفرين التي ينحدر أكثرهم منها وتعد قلبا لكردستان سوريا؟ هل بات الإعلام الكردي غارقًا في حسابات سياسية ضيقة لدرجة تترك فيها الجرائم تتم دون مساءلة؟ كيف يمكن تفسير هذا الصمت في ظل هكذا جريمة تتكشف على الأرض؟

ثمة من يفند بعض ما نراه بعين الواقع، ويطرح أسئلة هامة حول الأحداث الجارية في المنطقة. لماذا يتم إخراج الكرد من حلب؟ لماذا يُجبرون على الانتقال إلى الرقة، كما لو أن لهم مصيراً محتوماً في أماكن أخرى غير مدنهم وقراهم الأصلية؟ هذه الأسئلة تطرح شكوكاً حول دوافع القوى التي تدير الصراعات وتؤثر في مصير الكرد، خاصة في ظل محاولات تهجيرهم من مناطقهم التاريخية. في ظل هذه التحولات، يطرح البعض تساؤلاً مهماً: هل هناك فعلاً دول ضامنة لتأمين حقوق المكونات؟ وهل يمكن أن تقبل هذه الدول تكرار تجربة الموصل، حيث تم تهميش الأقليات وأُجبرت على العيش تحت تهديدات مستمرة؟

هذا الحدث يعكس مأساة جديدة تنضاف إلى سلسلة الانتهاكات التي يتعرض لها المدنيون في سوريا بشكل عام والكرد خاصة، حيث يتم استهداف الفتيات والنساء، ويظل مصيرهن مجهولًا في ظل غياب الأمن ووجود قوى متصارعة تسعى إلى تحقيق أجنداتها على حساب حياة الأبرياء. في ظل هذه الظروف، يبقى السؤال الأهم: ما هو الدور الذي تلعبه القوى الدولية أو المحلية لضمان سلامة هؤلاء الطلبة ووقف التعديات التي يتعرضون لها؟

إجابات هذه الأسئلة لا تزال غامضة في ظل الصمت الدولي وتجاهل معاناة الكرد، في حين أن هناك رغبة واضحة من بعض القوى لتغيير التركيبة السكانية وإعادة رسم الحدود بما يخدم مصالحها، دون النظر إلى الحقوق الإنسانية أو تاريخ هذه الشعوب.

المسؤولية تقع على عاتق الجهات الكردية المطلعة إذ عليها أن توضح ما يحدث في حلب، ورفع الصوت ضد محاولات التغيير الديمغرافي التي يتم تنفيذها في الظلام. فلماذا لا يتم التصدي لهذه العمليات التي تستهدف وجود الكرد وكل مكونات الشعب السوري؟ إن كان السكوت والتأجيل سيؤديان إلى خسارة حلب والعديد من المدن الأخرى، فلن يُغفر هذا لاحقًا.

هل نحن أمام مجازر للعلويين على الهوية؟

النبأ الذي يتحدث عن مصير 600 طالبة من الأخوات العلويات في جامعة حلب هو من الأخبار المقلقة التي تثير العديد من التساؤلات حول الوضع الأمني في المنطقة، خصوصًا فيما يتعلق بمصير هؤلاء الطالبات اللواتي تم اختطافهن أو فقدن في ظروف غامضة- أرجو أن يكون الخبر غيردقيق لأني أعلم أنه في هكذا محطات تختلط الحقيقة بالتزوير- إذ إن هناك أسماء وصلتنا من زملاء يتحدثون عن طالبات من مناطق مختلفة، بما في ذلك دير الزور، اللواتي كن يدرسن في جامعة حلب، ما يعكس حجم المعاناة التي يواجهها العديد من الطلبة في ظل الوضع المضطرب. هذا الحدث يثير تساؤلات أكثر حدة، خصوصًا في ظل ما تم تداوله عن احتمال وجود سبايا علويات بعد السبايا الإيزيديات. إذ يظل السؤال قائماً: هل أصبح النساء والفتيات في مناطق النزاع، سواء من الكرد أو غيرهم، عرضة للانتهاكات والاختطاف بشكل ممنهج كما كان الحال مع الإيزيديات؟

من سيقود سوريا الغد؟

المرحلة المقبلة في سوريا- إذا صدقت النبوءات ودخلنا حرمها- تتطلب قيادة قادرة على إحداث تحول حقيقي. هذه القيادة يجب أن تكون نظيفة، غير متورطة في دعم النظام أو الفصائل الإرهابية. ولا مجال لمن كان جزءًا من آلة القتل التي استهدفت الشعب السوري. سوريا بحاجة إلى طاقم قيادي يستطيع تجاوز التحديات الحالية، ويقف بجانب حقوق الشعب السوري بكل فئاته، من الكرد والعرب والمسيحيين وكل مكونات هذا المجتمع المتعدد. هذه القيادة لا بد أن تلتزم بمبادئ العدالة والمساواة، وأن تبني مؤسسات ديمقراطية تكون مستقلة عن النفوذ الخارجي.

الإعلام وصمته المريب

الأنباء التي أفادت بذبح ثلاثة كرد على يد المرتزقة هي مشاهد صادمة، حيث جرى تنفيذ هذه الجريمة الوحشية أمام أعين العالم. كانت هناك فتيات كرديات، لم ترفعن رؤوسهن رغم مطالبة المرتزقة المجرمين بذلك، مما يعكس حالة الذل والظلم التي تعيشها تلك الفتيات، اللواتي في الأصل هن من هزمن داعش أو ينتمين إلى أسر شهداء سطروا تاريخاً من المقاومة والتضحية. أحد المشاهد المؤلمة كان لحمل إحدى الفتيات الجريحة على ظهر أحد المقاتلين، وهو مشهد يعكس مدى القسوة التي تمارس ضد الكرد في هذه المناطق التي شهدت المعاناة والقتل. هذه الجرائم تمثل حلقة جديدة من حلقات الظلم الذي يتعرض له الكرد، خصوصاً في ظل الصمت الدولي الذي يرافقها.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا الإعلام صامت على ما يحدث؟ لماذا لا يتم نقل الحقيقة إلى الناس؟ حلب اليوم تواجه عملية تغيير ديمغرافي خطيرة، والسكوت على هذه الجريمة يمكن أن يترك الشعب السوري في حالة من الجهل والمزيد من الفوضى. على الإعلام الكردي تحديدًا أن يكون جزءًا من المعركة الإعلامية، وألا يظل صامتًا أمام محاولات تصفية الوجود الكردي في سوريا. الإعلام الكردي يجب أن يتحدث ويكشف عن كل ما يحدث في حلب، وأن يكون صوتًا قويًا يفضح التواطؤات التي تُحاك في الظلام.

وفي ظل هذا الصمت، يمكننا تساؤل: هل هناك أجندات خفية تتلاعب بمستقبل الشعب السوري؟ هل أن الإعلام الكردي والعربي يعيش تحت تأثير ضغوطات دولية وإقليمية تعيق تصديه للمجازر التي تحدث على الأرض؟ من الضروري أن نطالب بوجود مؤسسات إعلامية حرة وقوية قادرة على نقل الحقيقة كما هي، بدون تلاعب أو تسييس.

نقطة مظلمة في الأفق

تكرار ما حدث في الموصل كرر على نحو مستنسخ. في الموصل، تركت القوات الكبرى داعش تسرح وتمرح، والمدينة أُهملت. اليوم، في سوريا، قد يكون السيناريو نفسه قيد التنفيذ. هل سيحدث ذلك؟ هل ستظل القوى الكبرى تتفرج على ما يجري، بينما تُدمر سوريا من الداخل؟ هل سيصبح الشعب السوري في عفرين وحلب وغيرها من المناطق ضحية لتكرار السياسات  ذاتها التي أدت إلى تدمير مدن أخرى في المنطقة؟ هذا السؤال يتطلب وقفة جادة من جميع المعنيين بالقضية السورية.

نقطة مضيئة في المقابل ولو مصادفة

لنعترف أن عودة الكرد من الشيخ مقصود والأشرفية إلى عفرين خطوة إيجابية تستحق التقدير، ولكن يجب أن تقابلها إجراءات أكثر شمولاً لرد الحقوق لأصحابها الأصليين. من الضروري أن يتم إخراج وطرد الغرباء الذين استوطنوا بيوتهم بالقوة، وأن يُعاد كل سوري إلى منزله. هذا لن يحدث إلا إذا كانت هناك دول راعية تلتزم بحقوق السوريين، وتسعى لإنصافهم. بيد هذه الدول أن تنهي مهمة كل من دخل الحرب ليس دفاعًا عن أهله، بل كمرتزق يسعى للتكسب من الممول الأجنبي. إن تعهد الدول المعنية بإعادة المنطقة إلى أهلها الأصليين وتطهيرها من الاحتلالات المختلفة هو المطلب الأساسي لضمان عدالة حقيقية وإعادة بناء المجتمع السوري على أسس من الكرامة والحرية.

دعوة للكتّاب والمثقفين

على الكتاب والمثقفين أن يتحملوا مسؤولياتهم في هذه اللحظة الحاسمة. الصمت ليس خيارًا. كل واحد منا يجب أن يكون صوتًا للكشف عن الجرائم التي ترتكب بحق الشعب السوري، وأن يُسلط الضوء على ما يجري في حلب والمدن الأخرى. لا مجال للسكوت أمام هذه المحاولات لطمس الهوية السورية وتغيير ملامحها. الكلمة يمكن أن تكون سلاحًا فتاكًا في يد المثقف، وعلى الجميع أن يتحركوا بوعي ومسؤولية.

الظروف الحالية في سوريا تمثل مفترق طرق حاسمًا في تاريخها. التغيير قادم لا محالة، ولكن هل سيكون هذا التغيير لصالح الشعب السوري؟ الإجابة على هذا السؤال تعتمد على ما ستسفر عنه المرحلة المقبلة من القيادة والمواقف السياسية. يبقى الأمل في أن تكون سوريا الجديدة قائمة على أساس من العدالة والمساواة، بعيدًا عن الاستبداد والهيمنة الأجنبية. إن لم يكن هذا هو التغيير المنتظر، فقد يكون لدينا واقع مرير آخر نعيشه جميعًا.

شارك المقال :

One Response

  1. في المائة سنة الاخيرة كلما هاج الوحش التركي ،حتى يسكت، ابتلع قسما من الجسم الكوردي ،لايهم اي قسم ،من شماله القابع تحته او جنوبه او غربه اما شرقه فيلتهمه وحش اخر اسود،لايسمح للذئب التركي مشاركته…الجميع من بيدهم الحل والربط، يعرف ان القضاء على الافعى يتم من راسه وليس من ذيله….خير الكلام ماقل ودل…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…