مهزلة تصويت العرب على تحديد مصير الكورد

زاكروس عثمان   

اعلن رئيس النظام السوري المؤقت ابو محمد الجولاني رفضه لمقررات كونفرانس وحدة الموقف والصف الكوردي, والذي عقد في قامشلو 26.04,2025, تجاوبا مع موقف الجولاني و توجيهات زبانيته ارتفعت سوية اصوات الشوفينيين والسلفيين العرب تؤكد رفضها لمطالب الكورد، داعين إلى معالجة القضية الكوردستانية من خلال إجراء استفتاء عام في سوريا، وعلى ضوء النتائج يحدد مصير الكورد، وقد يبدو للوهلة الاولى ان العملية ديموقراطية، ولكن في الحقيقة فان هذا المظهر الديموقراطي، يتضمن مغالطة عميقة، بل نوعًا من الاستبداد المقنع, لان القومية  العربية تشكل الاكثرية، فيما القومية الكوردية تشكل الاقلية, بذلك تكون نتيجة التصويت محسومة سلفا لصالح الاكثرية, فاذا كان مطلب الشعب الكوردي هو الفيدرالية ولكن العرب لم يصوتوا لصالح الكورد، بهذه الحالة يكون الشعب العربي هو الذي قرر مصير الشعب الكوردي، وفي ذلك غبن واجحاف كبيرين، إذ ليس من العدل ان يقرر شعب ما مصير شعب آخر من خلال إجراء استفتاء.

ان القضايا القومية الكبرى تشكل اهم معضلة و موضوع بحث واهتمام الفلسفة السياسية والقانونية، حيث تطرح اسئلة عديدة، ومنها استفتاء الأغلبية هل هو معيار عدالة؟ هل تُترك مصائر الشعوب في الدول متعددة القوميات للأغلبية العددية؟ هل الديمقراطية تعني خضوع الأقلية لإرادة الأكثرية؟ أم أن هناك حقوقًا جماعية لا يجوز التصويت عليها؟

ان الاستفتاء أداة من أدوات التعبير الديمقراطي، لكنه مشروط بشرط جوهري, هو أن تكون الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات محصنة ضد تقلبات الأغلبيات العابرة, في كتابه “نظرية العدالة” يؤكد الفيلسوف السياسي الأمريكي جون رولز أن الحقوق الأساسية، بما فيها حقوق الهوية والانتماء، ينبغي أن تُعتبر فوق التفاوض السياسي، ولا يجوز التصويت عليها, هو يقصد ان حقوق الهوية والانتماء حقوق طبيعية وبديهية متفق عليها ليست موضع خلاف, و ان التمتع بممارسة هذه الحقوق لا يحتاج التفاوض، إذ لا يجوز للعربي ان يفاوض الكوردي في مسالة حقه التكلم بلغته الكوردية واستخدامها في التعليم والاعلام …الخ كما لا يجوز للعربي إجراء تصويت على حق الكوردي في الاحتفال بعيد نوروز او السماح للكوردي الايزيدي ممارسة طقوسه, ويضيف رولز إلى ان الاحتكام إلى استفتاء في مسألة هوية شعب، أشبه ما يكون بتصويت “السادة” على حرية “العبيد”، أو تصويت “الرجال” على حقوق “النساء” .بمعنى آخر، إنه تصويت طرف على وجود الطرف الآخر، لا تصويتًا بين متكافئين.

في الدول متعددة القوميات، العدالة تسبق العدد، والتوافق يسبق التصويت, وهناك تجارب ناجحة حيث قامت سويسرا على تعاقد إرادي بين جماعات لغوية ودينية متعددة (ألمانية، فرنسية، إيطالية)، ولم تخضع حقوق أي جماعة منها لمزاج الأغلبية, اما بلجيكا فان تجربتها مناسبة لسوريا لأنها أقرت نموذج “الفيدرالية القومية” بين (الفلامند والوالون)، لضمان عدم تهميش أي طرف مهما كانت الكثافة العددية, فلماذا لا تكون هناك فيدرالية بين القومية الكوردية و العربية، وفي البوسنة والهرسك فرضت اتفاقية دايتون نظام محاصصة دستورية لتحقيق التوازن بين (الكروات والمسلمين والصرب), كذلك يمكن دراسة تجربة العراق والاستفادة منها لوجود تشابه كبير بينه وبين سوريا في مواضيع تعدد القوميات والاديان والمذاهب, حيث أصبح نظام التوافق بديلًا عن مبدأ التصويت العددي البسيط, بالنسبة للمركز يتم توافق المكونات الرئيسية (الكورد، الشيعة، السنة) في بغداد، وفي إقليم كوردستان الجنوب يحدث توافق بين الأحزاب الكوردية الرئيسية (الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني) هذه التوافقات تتطلب تسويات، وأحيانًا يؤدي إلى تعطيل القرارات أو إنتاج سلطات هشة، لكنه يُعتبر وسيلة لتجنب الصدامات العنيفة والحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في مجتمع متعدد الهويات والانقسامات العميقة, وتم اعتماد التوافق بدل التصويت في العراق وإقليم كوردستان نتيجة الانقسامات العميقة داخل المجتمع, وبعد عقود من الصراعات الطائفية والعرقية، أصبح واضحًا أن التصويت العددي البسيط — حيث تفوز الأغلبية وتُهزم الأقلية — قد يؤدي إلى شعور فئات كاملة بالتهميش أو الإقصاء، مما يغذي العنف والانفصال وعدم الاستقرار, لذلك تم اللجوء إلى مبدأ التوافق، بحيث لا يتم اتخاذ القرارات الكبرى إلا بموافقة القوى الأساسية جميعها أو معظمها, الغاية من هذا النظام هو طمأنة المكونات المختلفة بأنها شريكة حقيقية في الحكم، وأنه لا يمكن لأي طرف فرض إرادته وحده على الآخرين مهما كانت قوته العددية أو السياسية.

بناء عليه إذا كانت سوريا ستبنى كدولة لكل مكوناتها، فلا بد من تجاوز منطق “دكتاتورية الأكثرية ” الحل يبدأ بالاعتراف الدستوري بالشعب الكوردي كشريك متساوٍ، عبر  

 ـ مواد دستورية فوقية لا يمكن تعديلها بأغلبية بسيطة.

ـ ضمانات حقيقية لممارسة اللغة والثقافة والتعليم والإدارة الذاتية المحلية.

ـ آليات تشاركية لصنع القرار السياسي والاقتصادي، تراعي التعددية القومية.

هذا النهج لا يحمي الكورد فقط، بل يرسخ أسس دولة مدنية حديثة، قائمة على مبدأ “المواطنة المتساوية ضمن الاعتراف بالتعددية”، لا على مفهوم “مواطن مهيمن ومواطن خاضع”.

ان الفرق الجوهري بين الديمقراطية الحقيقية والديمقراطية الشكلية، هو أن الأولى تضمن ألا تتحول إرادة العدد إلى آلة قمع للهوية, لذلك لا يمكن لمصير شعب أن يُحدد عبر تصويت شعب آخر عليه, لان الحقوق القومية، كما الحقوق الفردية، يجب أن تُبنى على قاعدة التوافق العادل، لا على قاعدة الاستفتاء العددي, وأي حل يتجاهل هذه القاعدة، إنما يبذر بذور صراع دائم، ويؤسس لدولة استبداد جديدة بأدوات ديمقراطية شكلية.

في هذا المنحى وبعد عقود من الإنكار المنهجي للهوية الكوردية، طرحت الحركة الكوردية في كونفراس قامشلو جملة مطالب أساسية، تمحورت حول الاعتراف الدستوري بالقومية الكوردية, جعل كوردستان روزئافا اقليم  ومنحه الفيدرالية او حكم ذاتي او اللامركزية, مع ضمان حقوق الكورد الثقافية واللغوية والسياسية, إلا أن الدولة السورية الخاضعة لسيطرة تنظيم ارهابي، بدلًا من التعامل مع هذه المطالب بروح التوافق الوطني، دفعت اتباعها إلى طرح خيارا مخادعا, بالدعوة إلى استفتاء شعبي عام، باعتباره “الحكم الفصل”, و يدل هذا إلى ان الجولاني مصمم على اتباع نفس السياسات العنصرية ـ الشوفينية بحق الكورد الذين منذ جلاء فرنسا عن سوريا 1946 وحتى استيلاء جبهة النصرة على الحكم تعرضوا لسياسات تمييزية ممنهجة, كمشروع الحزام العربي لتغيير التركيبة السكانية, الإحصاء الاستثنائي لعام 1962، الذي جُرد بموجبه عشرات آلاف الكورد من جنسيتهم, الحرمان اللغوي والثقافي، منع التعليم باللغة الكوردية وتجريم الأسماء الكوردية, كل هذه السياسات كانت تعبيرا عن رؤية قوموية مركزية تعتبر الكورد “طارئين” أو “ضيوفًا” على الوطن, وبالتالي، حين يطالب الكورد بحقوقهم، فإنهم لا يطالبون بامتيازات، بل بمحاولة تصحيح تاريخ طويل من الإنكار والظلم.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…