من الهزل إلى الاستبداد

فواز عبدي

 

لطالما بدت بعض تصرفات الطغاة في بداياتهم أشبه بالمسرحيات الهزلية أو “لعب العيال” كما يقول المصريون، حتى يظن الناس أن ما يجري مجرد مزحة ستنتهي قريباً. لكن المأساة تبدأ عندما تتحول هذه “المسخرة” إلى حقيقة على أرض الواقع، محمية بقوة السلاح، ومدعومة بدعاية تروج لها كأنها مشروع وطني أو قانون لا يقبل الجدل.

كثير من الأنظمة الاستبدادية بدأت بأفكار تبدو عبثية، سواء في خطاباتها، أو شعاراتها، أو حتى القوانين التي تضعها. أحياناً تكون هذه القوانين مثيرة للضحك لدرجة أن الأطفال قد يسخرون منها عند سماعها، لكن المشكلة أن أصحاب السلطة لا يمزحون. ما يبدو لنا غير منطقي أو مستحيل التطبيق يصبح مع مرور الوقت واقعاً ملموساً، مدعوماً بالقوة والقمع.

كأمثلة من التاريخ

1) عندما نشر القذافي “الكتاب الأخضر”، حاول أن يقدمه كنظرية سياسية وفكرية جديدة للبشرية. لكن الكثير من أفكاره بدت عبثية، مثل إنكاره لوجود الدولة الحديثة، واعتبار الرياضة الجماعية مؤامرة ضد الأفراد، ودعوته لاستبدال الانتخابات بـ”المؤتمرات الشعبية”. رغم أن الكتاب كان محل سخرية في البداية، إلا أن القذافي فرضه بالقوة، وأصبح المرجعية الوحيدة للحكم، وتم تدريس محتواه في المدارس، وسُجن من تجرأ على انتقاده.

2) في كوريا الشمالية، يفرض النظام قصصاً غير معقولة عن الزعيم، مثل أنه لا يتبول أو يتغوط، أو أنه اخترع الهامبرغر! رغم أن هذه الادعاءات قد تبدو مضحكة، فإن التشكيك فيها يمكن أن يؤدي إلى الإعدام أو السجن المؤبد. النظام حوّل هذه الأساطير إلى عقيدة إجبارية، تُلقّن للأطفال في المدارس، وتُستخدم لتعزيز السيطرة المطلقة للزعيم.

3) عندما بدأ هتلر في الحديث عن تفوق العرق الآري، وسن قوانين نورمبرغ العنصرية، اعتقد البعض أن الأمر مجرد دعاية مبالغ فيها. لكن هذه القوانين تحولت إلى حقيقة مأساوية، حيث أسست للمحرقة النازية، وتم من خلالها اضطهاد الملايين وقتلهم بناءً على أفكار بدت سخيفة عند طرحها لأول مرة.

4) عندما سيطرت طالبان على أفغانستان في التسعينيات، فرضت قوانين بدت غير معقولة، مثل منع النساء من التعليم والعمل، وتحريم الموسيقى والرياضة، وإجبار الناس على اتّباع تفسير متشدد للدين. في البداية، بدا الأمر كأنه تطرف لن يستمر، لكن طالبان فرضت هذه القوانين بالسلاح، وأصبحت المخالفة تعني الجلد أو الإعدام.

لا يمكن للطغيان أن يترسخ دون دعم آلة إعلامية ضخمة تعمل على تبرير كل إجراء، مهما كان سخيفاً أو غير منطقي. في البداية، قد تثير هذه القرارات استغراب الناس، وربما سخريتهم، لكن عبر التكرار المستمر، ومعاقبة كل من يجرؤ على التشكيك أو الضحك، يتحول العبث إلى أمر واقع.

تُستخدم الدعاية لخلق حالة من “الواقع البديل”، حيث يتم تصوير الطاغية على أنه المخلّص، وتبرير أي قانون مهما كان غريباً بأنه ضروري لحماية الدولة. ويتم ترهيب المواطنين من خلال إعلام يصوّر أي معارضة على أنها خيانة، وأي تفكير خارج إطار السلطة على أنه تهديد للاستقرار.

بمرور الوقت، تترسخ هذه الأنظمة عبر عدة عوامل، منها:

1- القمع والترهيب: إسكات أي صوت معارض من خلال القمع المباشر ؛ الاعتقال، أو الاختفاء القسري، أو النفي أو الاغتيال.

2- التجهيل والإلهاء: يتم تدمير المنظومات التعليمية والإعلامية لتغييب وعي الشعوب، فيصبح الناس عاجزين عن التمييز بين الحقيقة والتضليل.

3- التحكم بالمناهج التعليمية: غرس أفكار محددة منذ الصغر لمنع التشكيك في النظام القائم.

4- خلق عدو وهمي: تلجأ الأنظمة الدكتاتورية إلى اختراع أعداء وهميين، سواء كانوا قوى خارجية، أو معارضين داخليين، لتبرير سياساتها القمعية.

وأخيراً المزحة التي تتحول إلى كابوس لا يمكن مواجهتها إلا بالوعي. لا يكفي أن يسخر الناس من قرارات الحكام المستبدين، بل يجب أن يدركوا خطورتها قبل أن تترسخ كواقع لا يمكن تغييره. التاريخ يثبت أن كل نظام دكتاتوري بدأ بقرارات تبدو عبثية، لكنه استمر لأن الشعوب لم تتحرك في الوقت المناسب.

المواجهة تبدأ برفض التطبيع مع هذا العبث، ورفض قبوله كأمر واقع، والاستمرار في كشفه ومقاومته. الأنظمة القمعية لا تسقط فجأة، لكنها تنهار حين تدرك الشعوب قوتها الحقيقية، وحين يتوقف الناس عن الخضوع والخوف.

في النهاية، الدكتاتورية ليست قدَراً، لكنها نتيجة صمت طويل. وما بدأ كمسخرة، يمكن أن ينتهي بصرخة تغيير، فقط إذا قرر الناس أن يستفيقوا قبل فوات الأوان.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…