حوران حم
واقع يصرخ بالفوضى في مشهد يعكس عمق الأزمة البنيوية التي تعيشها الحركة الكوردية في سوريا، تتوالى المبادرات التي تُعلن عن تشكيل وفود تفاوضية موسعة، تضم عشرات الأحزاب والتنظيمات، تحت مسمى التمثيل القومي. غير أن هذا التضخم في عدد المكونات لا يعكس بالضرورة تعددية سياسية صحية، بل يكشف عن حالة من التشتت والعجز عن إنتاج رؤية موحدة وفاعلة.
حين يُطرح الحديث عن تشكيل وفد كوردي للتفاوض مع دمشق، سرعان ما تتحرك عشرات الأحزاب، معظمها ضعيفة أو غير فاعلة جماهيرياً، لتدخل في سباق تمثيلي قائم على المحاصصة والولاءات لا على البرنامج السياسي أو الرؤية الوطنية. فهل يُعقل أن يكون توافق خمسين حزباً – كثيراً منها لا يمتلك قاعدة شعبية حقيقية – خطوة متقدمة نحو الحل السياسي وهل من المنطقي أن تقبل سلطة مركزية، لا تزال ترفض الاعتراف بالمظلومية الكوردية، أن تشارك في مفاوضات بهذه الصيغة المرتبكة؟
السلطة لن تفاوض الفوضى:
الواقع السياسي السوري يؤكد، مراراً وتكراراً، أن دمشق لا تفاوض إلا من تراه نداً أو خطراً أو جهة تمتلك أوراق ضغط حقيقية. أما عشرات الأحزاب الكوردية التي تتنازع التمثيل، فهي – من منظور النظام – ليست سوى ظاهرة صوتية. وما من سلطة، مهما كانت عقلانيتها، تقبل بأن تشرعن هذا التشتت أو أن تعترف به كحالة سياسية جدية.
ولذلك، فإن التفاوض – إن حصل – سيكون من طرف واحد. السلطة هي من تقرر متى وأين وكيف، ومن ستدعو إلى الطاولة، وما المساحة التي يمكن أن تُمنح للكورد ضمن رؤيتها الخاصة للحل. وهذا بحد ذاته خطر، لأنه يُفرغ القضية الكوردية من مضمونها الوطني والقومي، ويُعيدها إلى مربع الإدارة المحلية أو اللامركزية الإدارية بلا أي ضمانات سياسية أو ثقافية حقيقية.
فوضى الأحزاب: عقبة أم أداة تشويش؟
الواقع الحزبي الكوردي اليوم أشبه بلوحة فسيفسائية مهشّمة؛ أحزاب كثيرة، انشقاقات بالجملة، تحالفات تتغير كل موسم، غياب شبه تام للبرامج السياسية الواضحة، وشخصنة مفرطة للعمل السياسي.
ما الذي يريده الكورد السوريون؟
ما هي خريطة طريقهم؟
هل هناك إجماع على سقف المطالب؟
من يُمثل من؟
وما هي المرجعية التي تحتكم إليها هذه الكيانات المتعددة؟
في غياب هذه الإجابات، يصبح الحديث عن وفد تفاوضي بمثابة إنشاء لغوي لا أكثر.
نحو الحل: هيئة كوردية عليا للتفاوض:
المخرج من هذا النفق السياسي لا يكون عبر تشكيل وفود فضفاضة، بل من خلال مشروع واقعي قائم على أربعة أسس:
- اختزال الكم لصالح الكيف:
لا بد من تقليص عدد الممثلين في أي وفد تفاوضي إلى هيئة صغيرة، فعالة، ومتفق عليها من معظم القوى المجتمعية الكوردية. هيئة لا تزيد عن 5-7 شخصيات، تُختار وفق معايير واضحة: الكفاءة، الخبرة السياسية، القدرة على التواصل، والقبول الشعبي.
- إشراك المستقلين والنخب غير الحزبية:
آن الأوان لكسر احتكار الأحزاب التقليدية للعمل السياسي. يجب فتح المجال أمام الشخصيات المستقلة، والكوادر الشابة، والنخب الثقافية للمشاركة في صناعة القرار.
- برنامج تفاوضي موحد:
يجب أن تصوغ هذه الهيئة ورقة سياسية تمثل رؤية موحدة للكورد في سوريا، تتضمن: الاعتراف الدستوري بالشعب الكوردي، ضمان الحقوق الثقافية واللغوية، ترتيبات إدارية لامركزية، وضمانات للمشاركة السياسية الحقيقية في مستقبل البلاد.
- بناء تحالفات وطنية:
أي مشروع كوردي لا يكون جزءاً من مشروع وطني سوري شامل، لن يُكتب له الاستمرار. لذا، لا بد من الانفتاح على القوى الديمقراطية السورية، العربية والآشورية والمسيحية، لبناء تفاهمات وشراكات تعزز من شرعية المطالب الكوردية.
من الضعف إلى الفاعلية:
الواقع يفرض على الكورد أن ينتقلوا من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل السياسي المنظم. المشهد المليء بالفوضى والشلل لا يخدم أحداً سوى من يريد للكورد أن يبقوا في الهامش. نحتاج اليوم إلى شجاعة سياسية، لا لصياغة بيان جديد أو إطلاق تحالف جديد، بل لكسر الحلقة المفرغة، والبدء بمشروع تفاوضي مسؤول، واقعي، وموحد.
التاريخ لا يرحم من يضيع الفرص، ولا يذكر من جلس في الزوايا. فلنكن بمستوى المرحلة، قبل أن تُحسم الأمور من دوننا.