خالد بهلوي
إن مظاهر انعدام الثقة بين الشعوب وحكومات الشرق تُعد أمرًا طبيعيًا بعد عقودٍ من الحكم الشمولي، وقمع الحريات، والاعتماد على القبضة الأمنية، وغياب الديمقراطية وحرية التعبير، إلى جانب تهميش دور المجتمع المدني.
فالثقة بين الشعب والقيادة أمر بالغ الأهمية لضمان الاستقرار ومنع انزلاق البلاد إلى الفوضى، إذ تُعد أساسًا لأي عملية بناء سياسي واجتماعي حقيقي، لا سيما في بلدٍ مرّ بتجربة قاسية كالتي شهدتها سوريا.
الشعب السوري، بتنوعه الديني والطائفي والعرقي، يحتاج إلى نظام سياسي يُمثّله فعليًا، ويضمن مشاركته في البرلمان والحكومة وإدارة المؤسسات، كما يمنح المجتمع المدني دورًا حقيقيًا، ليشعر الجميع بالانتماء والمساهمة في بناء الوطن دون خوف من المستقبل.
ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة؛ فالشحن الطائفي، والممارسات الانتقامية، والانتهاكات المتكررة تهدد السلم الأهلي، وتُعمّق الانقسامات داخل المجتمع السوري. وإذا بقيت هذه التجاوزات دون معالجة حقيقية، فستظل الفجوة بين الشعب والسلطة تتسع يومًا بعد يوم.
إن أي سلطة يجب أن تستمد شرعيتها من الشعب، ويُقاس نجاحها بقدرتها على بناء مجتمع ديمقراطي يضمن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لجميع مكونات الشعب. إلا أن القيادة الحالية – رغم بعض الخطوات والتصريحات الإيجابية – لا تزال تتحرك ببطء نحو تلبية احتياجات الناس، ولم تنجح حتى الآن في كسب ثقتهم.
لإعادة بناء الثقة، لا بد من:
- إثبات القيادة الحالية أنها تعمل بعقلية وطنية سورية، لا بعقلياتهم السابقة أيام خوضهم المعارك ضد نظام الأسد. أن تكون القيادة الفعلية بيد سوريين وطنيين مخلصين أثبت التاريخ ولاءهم وحبهم لوطنهم. محاسبة مرتكبي جرائم الساحل، حيث ارتُكبت تجاوزات طائفية رغم ادعائهم محاربة فلول النظام البائد.
- منح الشعب الكردي، والقوميات، والأقليات، والطوائف كافة حقوقهم المنصوص عليها في المواثيق الدولية، باعتبار أن حقوقهم مشروعة.
- تحسين قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية، ومكافحة الفقر، إضافة إلى توفير الحاجات الأساسية من غذاء وكهرباء ووقود، والرعاية اللازمة للنازحين واللاجئين.
كما أن إجراء انتخابات حرة ونزيهة تُعبّر عن الإرادة الشعبية لكافة مكونات المجتمع أمر لا غنى عنه؛ فالثقة لا تُبنى بالشعارات والخطابات، بل بالأفعال الملموسة واليومية.
هناك فقدان واضح للثقة بالمعارضة التقليدية التي لم تُقدّم حلولًا ملموسة رغم جهودها الدبلوماسية والعسكرية طوال 13 عامًا ضد النظام البائد.
لقد فقد كثير من السوريين ثقتهم بالقيادات المختلفة، سواء أكانت في مواقع السلطة أم ممن ادعوا أنهم حماة وأمل السوريين في المستقبل، نتيجة للوعود الفارغة، والفساد، وغياب التمثيل الحقيقي، والعجز عن تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية.
فبعد أكثر من 13 عامًا من الدمار والتهجير والانهيار الاقتصادي، أصبحت الثقة بأي قيادة ضعيفة جدًا، في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية، وانهيار الليرة، وارتفاع الأسعار، وانعدام الخدمات. وقد تصاعد الغضب الشعبي؛ حتى في “البيئة المؤيدة”، حيث بدأت الأصوات الناقدة تتعالى – من فنانين وإعلاميين ومثقفين – في تعبير واضح عن حجم المعاناة والانفصال بين القيادة وهموم الناس.
لم يعد هناك شعور بالأمان حتى في مناطق سيطرة النظام؛ فالاقتصاد منهار، والحياة صعبة، والناس مرهقة.
تُعدّ مسألة الثقة بين الشعوب والقيادات الحاكمة حجر الزاوية في استقرار الدول ونهضتها. وفي الحالة السورية، التي مرت بأكثر من عقد من الحرب والدمار والتهجير والانهيار الاقتصادي، فإن إعادة هذه الثقة تتطلب جهودًا جادة وممنهجة لترميم كل ما دمّره النظام السابق.
فانعدام الثقة لم يأتِ نتيجة الحرب فقط، بل هو تراكم لعقود من السياسات والممارسات التي همّشت الديمقراطية والمشاركة الشعبية، وكرّست الفساد، وأضعفت مؤسسات الدولة لصالح أسرة حاكمة وحاشيتها، بعد فشل كل الوعود بالإصلاح.
إن إعادة بناء الثقة لا يمكن أن تتم عبر خطابات أو شعارات، بل عبر سلسلة من الخطوات الملموسة والواقعية، مثل: ضمان الحريات العامة. فتح المجال أمام الإعلام للعمل بحرية. تحقيق تمثيل عادل لكل فئات المجتمع. تحسين الواقع المعيشي من خلال توفير الغذاء والكهرباء والوقود والخدمات الصحية والتعليمية.
كما يجب تأمين عودة النازحين، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف دولي يضمن حقوق الجميع، إلى جانب تعزيز دور المجتمع المدني للمشاركة في صناعة القرار وصياغة السياسات العامة ولا يمكن لأي سلطة أن تحظى بشرعية دون أن تعكس إرادة الناس، وتحترم حقوقهم، وتضمن لهم الحد الأدنى من الكرامة والعدالة.
لضمان مستقبل مستقر ومزدهر لكل السوريين، على اختلاف مكوناتهم، لا بد من مشروع وطني شامل يُعيد بناء الثقة بين القيادة والشعب على أسس جديدة.
========
صحيفة ” كوردستان” العدد 752