ليس دفاعاً عن الشيخ الهجري: حين تُستنجد الطائفة بأخلاقيات الدولة المهدورة

إبراهيم اليوسف
لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا السوري: عندما تتخلى الدولة عن وظيفتها، وتتحول إلى جهاز أمني تسلطي ميليشياوي، وعندما تَخرُج من معادلة التمثيل الوطني لتستقوي بطائفة واحدة، فكل طائفة أخرى تصبح مهددة، بل مهيأة للإجهاز عليها.
إن نقد الطائفية ليس ترفاً سياسياً، بل هو مدخل أساسي لفهم التشوه البنيوي الذي أصاب سوريا، دولةً ومجتمعاً. فما من دولة يمكن أن تحتفظ بمشروعيتها حين تتحول إلى سلطة تُحكم باسم طائفة واحدة، من دون أن تضم تنوعاً فعلياً في الوزارات والإدارات و مفاصل السلطة. حيث أن الدولة حين تستند إلى الطائفة، فإنها تصبح عصابة، ويُصبح خطاب الوطنية الرسمي محض قناع لتمويه السيطرة الفئوية على البلاد، وهذا ما يفتح الباب- شرعاً وواقعاً- أمام نشوء طائفة مقابلة، كحالة دفاع وجودي.
وحين يلوّح الشيخ الهجري بمسألة الاستعانة بالخارج، في إطار الحماية، فحسب، فإنه لا يفعل ما لم تفعله جهات مناهضة للنظام من قبل، بل إن الثورة السورية”2011-2014″ التي تزعم فصائل المعارضة نفسها أنها انطلقت منها وتمثلها، قد طالبت منذ عام 2011 بالتدخل الدولي. فليعد القارئ إلى الجمعات التي تلت انطلاق الثورة: جمعة الحماية الدولية (9 أيلول 2011)، جمعة التدخل العسكري (16 آذار 2012)، ثم الدعوات المتكررة لفرض حظر جوي وإقامة منطقة عازلة على الحدود الشمالية والجنوبية. كذلك، فإن المعارضة أُنشئت برعاية دولية، منذ تأسيس المجلس الوطني السوري، إلى ولادة الائتلاف، إلى غرف “موك” و”موم”، وصولاً إلى الدعم العسكري من دول كثيرة. فهل تُجرّم طائفة لطلبها الحماية في لحظة تهديد، في مواجهة مخطط المجازر المفتوحة والإبادة، بينما تُبارك خطوات معارضة استندت إلى الخارج منذ البدايات؟
واقع الحال- بحسب ظني- أن ما دفع الشيخ الهجري إلى التلميح بذلك، هو انكشاف المشهد الأمني في جنوب سوريا، خاصة بعد الأحداث الأخيرة، التي أظهرت إفلات الميليشيات الطائفية من كل قيد، وانحياز بعض القوى الفاعلة إلى سيناريو المذبحة المحتملة، دون أن يكون ثمة دولة تتدخل لوقف النزيف، أو تحفظ كرامة المواطنين. وفي ظل هذا الغياب الكارثي للعدالة، فإن استنجاد أي جماعة مستهدفة بالخارج ليس خروجاً على الوطنية، بل احتجاجاً عليها.
فالمواطن الذي يُظلمه “أبوه”، أي دولته، لا يملك إلا أن يصرخ، وأن يطرق باب الجيران، كما يفعل الطفل المقهور. الطفل لا يختار أباه، لكنه يصرخ حين يُضرب، وحين يُهدد وجوده، فيستنجد، لا بغرض الخيانة، بل للحماية. والدولة التي تفقد معناها، وتفشل في تمثيل” الكلّ”، وتُخضع الأمن والاقتصاد والعدالة لهويةٍ طائفية ضيقة، لا تترك لبقية المكونات سوى خيار الدفاع عن النفس، والاستعانة بمن يستجيب.
لقد رأينا، مراراً، ما جرى في الساحل السوري، وما فعله بعض الناشطين العلويين أنفسهم في المنافي، حين تحدثوا عن ضرورة الحماية من الاستبداد، أو من الفوضى الأمنية، أو من الخطف، أو من التجنيد القسري. ولم يُعَدّ ذلك خروجاً على السلم الأهلي. فلماذا يُلام الشيخ الهجري وحده؟ أليس ما فعله هو بالضبط ما فعله ناشطو كل المناطق السورية، حين هُدّدت مجتمعاتهم بالإبادة أو القهر؟
إن ما نحتاج إليه، الآن، ليس مزيداً من التحريض الطائفي، بل مراجعة عميقة لمفهوم الدولة، ومعنى المواطنة، ووظيفة الحماية، وأخلاقية التمثيل. الدولة لا تعني الأرض فقط، بل العقد الاجتماعي الذي يُنظم العلاقة بين المكونات، ويوفر لها الحد الأدنى من الأمان السياسي والحقوقي. وعندما تفشل الدولة في حماية طائفة، فإن استنجادها بالخارج ليس خيانة، بل هو محاولة للبقاء، وردّ فعل على إهمال المركز، وتمادي القوة المنفلتة، وصمت الشركاء.
لهذا، فإن الهجوم على الشيخ حكمت الهجري يجب ألا يُفهم إلا كإعادة إنتاج للمنطق القمعي ذاته: منطق إسكات كل صوت يحتج على الظلم. في حين أن دفاعنا الحقيقي عن سوريا، كوطن، يمرّ عبر الاعتراف بحقّ كل مكوّن فيها أن يحيا بكرامة، وأمان، وعدالة. لا أن يُطالب بالتضحية ثمناً للبقاء، ولا أن يُعامل كضيف على أرضه، يُمنُّ عليه بالبقاء ما دام صامتاً.
الشيخ الهجري، في لحظة مفصلية، لم يخرج عن السياق الوطني، بل ذكّر به، حين انكشفت الدولة وتعرّت. وما طلبه، أو ألمح إليه، لا يُدين السويداء، بل يُدين من أوصلها –وسواها– إلى هذه الحاجة القاسية للحماية.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…