درويش محما
المهندس باسل قس نصر الله، المستشار السابق للسيئ الذكر احمد حسون، اخر مفتي سوري على الاطلاق، بعد الغاء هذا المنصب من قبل المخلوع بشار الاسد عام ٢٠٢١، كتب تحت عنوان “انا سوري مسيحي …لكنني اخاف” مقالة تم نشرها في صحيفة “رأي اليوم” مؤخرا، يفصح فيها عن خوفه وبالغ خشيته، من تنامي وتصاعد التعصب الاسلامي الاصولي في سورية، والسبب الذي يجعله خائفا -حسب الكاتب- هو انتماؤه للطائفة المسيحية السورية.
لا شك أن السيد نصر الله صادق ومحق في مخاوفه، ونحن نخاف مثله وربما اكثر منه. خوفنا عظيم من التطرف والارهاب، لا بل اكاد اموت رعبا وذعرا بمجرد التفكير اننا في سورية على اعتاب دولة اسلامية اصولية متشددة، وحتى أؤكد للسيد نصر الله عن مدى خوفي وخوف كل اهل سورية من تنامي وتصاعد الفكر الاصولي الاسلامي المتشدد، وحتى اخفف عنه همه وعن طائفته المسيحية همومها، وحتى تكون عزيزي القارئ على بينة ومعرفة، وكذلك الاستاذ نصرالله، ساسرد لكم ولحضرته، ما حصل معي مؤخرا “وانا سوري مسلم …لكنني اخاف”.
لاني كثير السفر والترحال، ياسادة يا كرام، وحتى ابعد عن نفسي رهاب الطيران وعناء التفكير بمخاطره، اول ما افعله حين اضع قدمي على الطائرة، اشغل نفسي بالقراءة، وحينما اتعب من المطالعة والقراءة، اقضي وقتي المتبقي من زمن الرحلة بالكلمات المتقاطعة وحلها، وان سنحت لي الفرصة لا ابخل على نفسي بمتعة النظر لمضيفات الطيران وجمال قوامهن.
رحلتي الأخيرة بين استنبول وستوكهولم، كانت رحلة متعبة غير مريحة، لا بل بالاحرى كانت رحلة مرعبة ومخيفة، والفضل في ذلك يعود لشاب في مقتبل عمه ارسله الرب، وقاطع التذاكر، وسوء حظي ليجلس في نفس الصف الذي اجلس فيه. كان هو بجانب النافذة، واخر يجلس بيننا في النصف، وانا على طرف الممر، شاب محلوق الشارب، وله لحية طويلة مجعدة مصبوغة بالاحمر، وقلنسوة بيضاء تغطي رأسه، كالتي يضعها الحجاج العائدون من الحج، يرتدي جلبابا رماديا قصيرا تحت الركبة، وتحت جلبابه سروال من نفس اللون، وفوق جلبابه سترة سوداء غريبة لم أرى مثلها من قبل. فور جلوسنا في مقاعدنا والطائرة لم تتحرك بعد، جاثمة راكدة على الارض، وقبل ان تطير بنا طائرتنا وتشق عنان السماء، بدأ الراكب الشاب هذا، بالحديث في امور السماء مع الشخص الجالس الى جانبه. تكلم لمدة ساعة ونصف الساعة، بشكل متواصل وبصوت عال مسموع وبالعربية الفصحى، وكأنه يخطب بنا في خطبة يوم الجمعة، ولا اخفي عليكم بدأت اشعر بعدم الارتياح، وابتليت مع مرور الوقت بوسواس متلازمة الارهاب، وصرت احدث نفسي بصمت، من هذا الرجل الغريب الملبس والفكر؟ هل هو ارهابي؟ ماذا يخطط؟ هل سيخطف طائرتنا؟ هل سيفجر نفسه؟ كلما تحرك هذا الكائن الغريب كنت أخشى ان نهايتنا قد اقتربت، حتى اني وهو يفتح حقيبته في إحدى المرات، يبحث عن غرض ما، وجدت نفسي في كامل الاستعداد للانقضاد عليه، قبل ان يفجرنا في السماء، ونبقى في السماء ونلحق به الى الابد.
الشاب الاخر، الذي كان يفصلني ويجلس بيني وبينه، قام ومشى نحو كابينة التواليت لقضاء حاجته، وقلت في قرارة نفسي، الشكر والحمد لك يارب، اخيرا سيصمت هذا المتخلف ونرتاح لبعض الوقت، لكنه مال نحوي ليسألني: هل تقرأ القرأن يا اخي؟
لم انتظر طويلا لارد عليه: لا والله، انا لا اقرء القرأن ولست بمسلم، انا من جماعة ابن عربي والحب ديني، ثم توقفت لبرهة وقلت: والصمت ايضا ديني.
وفجأة صمت وبلع لسانه، واستمر بالصمت حتى بعد عودة صاحبنا في الرحلة وجلوسه بيننا. لم يتكلم معه ببنت شفة، وبقي صامتا طوال المدة الباقية من الرحلة، وعدت كعادتي لاستمتع برحلتي، بين النظر الى المضيفات، وبين القراءة والكلمات المتقاطعة وحلها.
الدعوة الى الدين مكانها حصرا الجامع والكنيسة، ويجوز لشخص ما، ان يدعو شخصا اخر الى الدين، في مكان اخر غير اماكن العبادة، لكن يشترط في صحة مثل هكذا تصرف، توافر شرط الرضا وشرط الاذن من الاخر المتلقي. خلال سنوات حياتي في السويد، طالما طرق باب منزلي من قبل اشخاص يسمون انفسهم بشهود يهوا، وهي طائفة مسيحية تدعو للدين. حين افتح الباب واجد احدهم أمامي، يبتسم ابتسامة عريضة ويقول: مرحبا، انا من كنيسة شهود يهوا هل بإمكاني الحديث معك للحظة لو سمحت؟ فأرد عليه: لا .. لا يمكنك، ولا اسمح لك، دعني وشأني، واغلق الباب في وجهه. عادة يكون الطارق أنيق الهندام وحسن المظهر، وفي بعض الاحيان، يكون الطارق، عبارة عن طارقة، ومن الجنس اللطيف، فأرد عليها واقول: اسف سيدتي، لا اجد رغبة في ذلك، مع السلامة.
لا شك أن حرية التعبير، تعتبر حق ثابتا واساسيا من حقوق الفرد، تضمن له التعبير عن افكاره ومشاعره ومواقفه وحتى معتقداته الدينية، وحق التعبير عن الدين وحرية الدعوة الى دين ما، او ديانة معينة، حق محفوظ ومضمون وجزء لا يتجزء من حرية التعبير، طالما ان هذا الحق لا يتعارض مع مبدء حرية الفكر والمعتقد، والذي يحدث اليوم في سورية، في الأماكن العامة وفي الشوارع وعلى الطرق، رغم ندرته وقلة حدوثه، امر يتعارض مع حرية المعتقد، ويسيء الى جمالية المكان نطفي الوقت نفسه، باعتبار هؤلاء الدعاة، منظرهم يخل بالمنظر العام الجميل لمدننا وشوارعنا، واماكننا العامة، ولان فكرهم غير معروف بعد، وقد يكون من النوع التكفيري العنيف والهدام للدولة والمجتمع على السواء.
الخوف الذي أعرب عنه الاستاذ نصرالله في مقاله خوف مشروع بدون أدنى شك، نظرا للخلفية العقائدية للمحررين، لكن من المحتمل أن يكون هؤلاء قد غيروا ما بانفسهم، وأعتقد جازما ان القائمين على ادارة سوريا الجديدة، سوريا اليوم، والسيد احمد الشرع وفريقه المقرب منه، يدركون جيدا ان التطرف والتشدد الديني في سورية لن يحظى بالحياة والديمومة، وان الدين لله والوطن للجميع. وكون اهل سورية لهم تاريخ ديني معتدل وسمح، ولان نظرية الموروث الثقافي نظرية صحيحة وقويمة ثبت صوابها، لذا لن يكون للتطرف الديني مكان في بلادنا، وستختفي هذه الظاهرة في القريب العاجل، ولا خوف على سورية واهلها، والله اعلم.