كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة الثانية عشرة (نصرالدين ابراهيم *)

مقدّمة:

إنّ الوقوف على ماهية وتفاصيل انتفاضة قامشلو 2004م ليس بالأمر السهل ولا الهين، بل يحتاج إلى قراءةٍ واقعيةٍ وتحليلٍ معمّقٍ لمجريات هذا الحدث التاريخيّ الممزوج بـ: “الألم و الأمل” في آنٍ معاً.

فالانتفاضة جاءت كنقلةٍ نوعيةٍ في فترةٍ زمنيةٍ من تاريخ الدولة السّوريّة، يصعب فيها تصديق تسارع وتيرتها بشكلٍ أرعب السلطات في دمشق، حيث كانت سوريا حينها تشهد تشديد القبضة الأمنية على جميع مفاصل البلاد “السياسية والإدارية والأمنية والعسكرية والاقتصادية وحتى الاجتماعية “ولم يخطر في بال أحدٍ أنّ مباراةً اعتياديةً من الدوري السّوريّ وبعض الشغب المعتاد في المباريات “في ظاهر الأمر” ستكون شرارةً لانتفاضةٍ شعبيةٍ عارمةٍ، انطلقت من قامشلو، وتمدّدت في كلّ اتجاهات الجغرافيا الكردية مروراً بأحياء التواجد الكرديّ في الأشرفية والشيخ مقصود في حلب و زورآفا في دمشق وانضمام  الطلاب الكرد إلى الانتفاضة في عموم الجامعات السُّوريّة.. لتستقرّ في العاصمة دمشق، وكذلك كان تضامن الشعب الكرديّ في كردستان العراق وبلاد المهجر مدعاةً للفخر.

فالدخول في بحث وتقييم أسباب ومجريات ونتائج هذه الانتفاضة المباركة يقتضي الأخذ بعين الاعتبار عاملي “الزمان والمكان” في خضم تناقض الظرفين “الذاتيّ والموضوعيّ” للكرد حينها، حيث إنّه من الخطأ إسقاط تحليل اليوم في زمنٍ يتمتّع فيه الكرد بالكثير من المزايا والإمكانيّات في ظلّ وجود قوات التحالف الدوليّ على تلك المرحلة الزمنية التي اندلعت فيها الانتفاضة.

ويمكننا القول باختصارٍ: إنّ لكلّ مرحلةٍ تاريخيةٍ نمطٌ محدّدٌ من التفكير والسلوك، لا يمكن إسقاطه بكلّ تفاصيله على مرحلةٍ تاريخيةٍ مغايرةٍ.

ممهّدات اندلاع الانتفاضة

في ظاهر الحدث كان السبب المباشر عبارة عمّا سبق مباراة كرة قدمٍ بين فريقي “الجهاد والفتوة”، ولاسيّما عندما تجوّلت جماهير فريق الفتوة بـ اثنتي عشرة حافلة في شوارع قامشلو مردّدين شعاراتٍ أثارت حفيظة الشارع الكرديّ كثيراً، من قبيل ” تحيا الفلوجة، يحيا صدام حسين، يسقط برزاني، طالباني، أوجلان وهؤلاء عملاء الأمريكان”، وتوافدوا على الملعب مهيّئين أنفسهم للتصادم بالحجارة والعصي ولم يتمّ تفتيشهم خلاف جمهور الجهاد، على هذه الخلفية حدث الصدام، حيث وقفت قوات الأمن الداخليّ إلى جانب جمهور الفتوة، ووجّهوا بنادقهم إلى جمهور الجهاد، وارتقى على أثر ذلك أربعة شهداءٍ يومها، وما ألهب الشارع الكرديّ أكثر هو ما أذاعه الراديو السُّوريّ من أنّ ثلاثة أطفالٍ قتلوا دهساً، وبعد وصول اللجنة الأمنية التي كان يترأّسها محافظ الحسكة “د. سليم كبول”، أُعطيت الأوامر بإطلاق النيران الأمر الذي زاد من عدد الجرحى.

إلا أنّه كانت هنالك العديد من العوامل والظروف الممهّدة لاندلاع الانتفاضة، حيث إنّها  تفجّرت على قاعدة الأزمة المركّبة في سوريا “الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية”، خاصةً وأنّ الشعب الكرديّ عانى الأمرّين في ظلّ توافر هذه الأزمة المركّبة، كونه من قوميةٍ أخرى مضطهدةٍ، حيث تمّ تجاهل وجود الشعب الكرديّ بعد استقلال سوريا وإلى يومنا هذا، خاصةً في ظروف الانتفاضة، والأمر الثاني كان الحدث الكبير الذي حدث في العراق  وهو سقوط أحد الأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية في العراق، هذا الشيء أعطى متنفّساً للساحة الكردية في سوريا، خاصةً وأنّ الكرد هناك استطاعوا “قبل سقوط النظام” أنْ يقنعوا المعارضة بالفيدرالية في مؤتمر لندن وغيره من المؤتمرات.

أيضاً كان الشارع العربيّ القوميّ بشكلٍ عامٍّ متأثّراً بسقوط النظام العراقيّ، فهو نظامٌ قوميٌّ وأحد أجنحة البعث، وكانت لصدام حسين رمزيته، وخاصة بالنسبة للعشائر والقوى السُّنّيّة، حيث إنّ الإخوان المسلمين والتحالفات التي شكّلوها بعد الثمانينيات من القرن المنصرم كانوا  يتلقّون الدعم من صدام حسين، وأغلب التنظيمات الإسلامية الراديكالية كان لها علاقاتٌ يقودها عزت الدوري نائب رئيس العراق.

كان من الواضح أنّ شيئاً ما “كان قد أعد له” بدقّةٍ وبخبثٍ من قبل  محورٍ أو طرفٍ ما في السلطة السُّوريّة “دون معرفتنا إلى الآن لتلك الجهة “، فكان واضحاً من خلال لقاءاتنا مع الجهات المعنية الرسمية وجود أكثر من توجّهٍ، كما أنّ ذلك كان جلياً من خلال التعامل مع الكرد على الأرض.

فإمّا أنّ النظام قد خطّط لتوجيه ضربةٍ استباقيةٍ للشعب الكرديّ قبل انتقال تجربة الإقليم إليه في سوريا، إلا أنّ تطوّر الأحداث فاق تصوّره وتخطيطه وخرجت الأمور عن السيطرة، فحاول النظام التعامل مع الحدث بسياسة العصا والجزرة؛ ليوحي للرأي العام بوجود توجّهين في أروقته.

كما أنّ هنالك احتمالٌ آخر وهو وجود جهةٍ داخل السلطة في البلاد حاولت خلق أزمةٍ كبيرةٍ؛ لتزعزع سلطة النظام السُّوريّ الحديث العهد بالحكم، وبالتالي ليتاحَ  لهذه الجهة المجهولة زيادة فرص تحكّمها بزمام الأمور في البلاد تدريجياً في المستقبل.

مسارات تعامل الحركة السياسية الكردية مع الانتفاضة

الحركة السياسية الكردية أيضاً لم تكن تتوقّع تطوّر الأحداث التي اندلعت عقب أحداث ملعب قامشلو، وفي الوقت ذاته كانت في حالة تشرذمٍ وخلافٍ فيما بينها، وجاءت الانتفاضة لتدخل بحالة إرباكٍ، ولكنّها تمكّنت رغم ذلك من أنْ تخطو خطوةً في الاتجاه الصحيح، وهي تجاوز تلك الحالة بالاجتماع والاتفاق على اتخاذ المواقف وإصدار البيانات باسم “مجموع الأحزاب الكردية”.

حاولت الحركة السياسية الكردية التحرك بكثيرٍ من ضبط النفس والعقلانية من خلال قراءة الحدث بواقعيةٍ ودراسة إمكانية استثماره ليشكّل ذلك نقلةً نوعيةً باتجاه الإقرار بنوع من الحقوق القومية للشعب الكرديّ في سوريا، ومن ناحيةٍ أخرى تجنيب الشعب المنتفض وكذلك المناطق الكردية أيّةَ تبعاتٍ مدمّرةٍ وخطيرةٍ نتيجة قراراتٍ خاطئةٍ، أو عاطفيةٍ، أو استغلاليةٍ من قبل البعض، وكذلك عدم الوقوع في مصيدة من خطّط لهذه المؤامرة بالأساس.

هذا كان توجّه مجمل أطراف الحركة السياسية، طبعاً لا يخفى ظهور طرفٍ هنا أو هناك حاول تغيير هذا التّوجّه باتجاهٍ مغايرٍ “بقصدٍ أو من غير قصدٍ”، الأمر الذي استثمرته السلطات في سوريا.

أمّا فيما يتعلّق بالنشاطات والتّحرّكات التي قام بها مجموع الأحزاب الكردية، فقد عقدت اجتماعاً وأصدرت بياناً موجّهاً إلى الرأي العامّ وهيئات المجتمع السُّوريّ، تضمّن مطالب الأحزاب الكردية السياسية، وخطّة الأحزاب كانت باتجاه تهدئة الأوضاع وبشروطٍ، وهذه الشروط برأيي كانت نوعاً من القوة حينها، حيث إنّها حاولت إجهاض محاولات النظام لإظهار الانتفاضة على أنّها استهدافٌ للرموز الوطنية وأنّها تخريبيةٌ ومرتبطةٌ بالخارج، والبيان دحض ذلك عبر ندائه وشروطه.

الخطّة المرسومة من قبل الأحزاب الكردية لتشييع الجثامين، والتي كنتُ مشاركاً فيها، هي تشييعها في جامع قاسمو، ليصار إلى دفن الشهداء كلٌّ حسب منطقته، إلا أنّ بعض القيادات الكردية المسؤولة قامت بخلاف ذلك، وخرجت عن الخطّ المرسوم لتشييع الجثامين، وحصل الاصطدام أمام مركز الجمارك وفي دوار الصوامع بالعنترية، وكنّا متفقين بوضع انضباط للمشيعين.. وتلك الخطوة كانت الأولى لإجهاض الانتفاضة من مضمونها وعنفوانها.

بعدها تمّت اتصالاتٌ عديدةٌ مع قيادات مجموع الأحزاب الكردية، واتصالاتٌ واجتماعاتٌ للعشائر، كما تمّ تداول خبر قدوم وفدٍ أمريكيٍّ إلى قامشلو، ولم نتأكّد حينها من ذلك، وتلقّى النظام السُّوريّ، حينها، رسائل عديدةً بعدم الانجرار إلى مذابح ضدّ الكرد، بعدها جاء وفدٌ من مكتب الأمن القوميّ مؤلَّفٌ من خمسة أشخاصٍ إلى قامشلو والتقى مع الأحزاب الكردية وقسمٍ من الطيف الاجتماعيّ والعشائريّ للكرد والعرب في مديرية منطقة قامشلو، وكان الهدف من ذلك الدفع باتجاه وقف وتهدئة الأوضاع ووعدوا بأنّهم سيحقّقون في الأمر وسيحاسبون المتسبّبين بما جرى.

كنتُ ضمن الوفد الكرديّ الذي التقى بوزير الدفاع حينها العماد مصطفى طلاس ونائبيه، ووُعِدنا بطرح الموضوع على رئيس الجمهورية والعمل على إطلاق سراح المعتقلين، كما جرت لقاءاتٌ مع جميع أحزاب الجبهة الوطنية، كما قام قسمٌ آخر بلقاءٍ مع مدراء الأجهزة الأمنية.

مسارات تحرّك السلطات السّوريّة

كانت الانتفاضة مدعاةً للفخر والاعتزاز بقدرة الكرد حينما اتّحدوا شعباً وحركةً سياسيةً على تسلّم زمام المبادرة، وباتوا قوةً لا يمكن الوقوف في وجهها، ممّا استدعى من السلطات  اللجوء إلى التهدئة أمام الشارع المنتفض، فتسبّب ذلك بخللٍ في توازن السلطة وسلوكها خلاف توقّعاتها.

إنّ ممّا يؤكّد درجة الإرباك التي وصلت إليها السلطة في دمشق هو إجراؤها العديد من الاتصالات مع القوى الدولية والعربية والكردستانية؛ للعب دورٍ في تحجيم الانتفاضة، وبالتالي، إيقاف أوارها، ولاسيّما أنّ الظرف حينها لم يكن في صالح دمشق  “رغم قوّتها وتماسكها الأمنيّ والعسكريّ “فالقوّات الأمريكيّة كانت قد نجحت في إسقاط أقوى نظامٍ ديكتاتوريٍّ في المنطقة خلال أيامٍ، ورأتْ دمشق في ذلك تهديداً وجودياً كبيراً، فكانت تتصرّف بحذرٍ شديدٍ إزاء تلك القوات، لتنتقل في مرحلةٍ لاحقةٍ إلى دعم الجماعات الإرهابية من خلال تجميع عناصرها وإرسالهم إلى العراق لمحاربة القوات الأمريكية؛ لتحقيق هدفين متلازمين: “الأول والأهمّ هو التّخلّص من هذه الجماعات وتوجيهها إلى خارج الحدود، والثاني هو إلهاء القوات الأمريكية وعدم تمكّنها من التّحرّك بسهولةٍ والتّوجّه بنظرها غرباً نحو سوريا”، علماً أنّ هذين الهدفين أفرزا نتائج عكسيةً خطيرةً على مجمل البلاد من حيث إنّ تسهيل وغضّ الطرف عن نشاط الجماعات المتطرّفة جعل من سوريا مرتعاً خصباً للإرهاب” وهذا ما نتلمّسه اليوم، كما أنّ لجوء النظام للحلول الأمنية والعسكرية كحلٍّ أوحدٍ لجميع أزماته جعل من سوريا مرتعاً للبازارات الدولية وأفرز كلّ هذا الدّمار الذي نعيشه اليوم.

وقد عملت السلطة السّوريّة في اتّجاهين، الأول: ضرب الانتفاضة وقمعها، حتى أنّها استخدمت بعض العشائر وتنظيمات حزب البعث ضدّ الشارع الكرديّ ونهب الممتلكات والتخريب، إضافةً  إلى استخدام بعضاً من عملائها في الإيحاء للرأي العام بأنّ ما يجري ليس أكثر من عمليات تخريبٍ وبإيعازٍ من الخارج، والثاني: كانت هناك لقاءاتٌ واتصالاتٌ مع قيادات العمل الكرديّ واستخدام ما يسمّى بنظرية: (العصا والجزرة).

موقف المعارضة الوطنيّة السّوريّة

حاولت المعارضة السّوريّة بشكلٍ ما أنْ تتضامن مع الشعب الكرديّ، رغم أنّها باتت تحت تأثير عدّة عواملَ سواءٌ من حيث إنّها تنادي بالديمقراطية والتعددية، أو من حيث هواجسها من سطوة النظام، إضافةً  إلى تأثّر بعض أقطابها  بالفكر العروبيّ والدينيّ… وفي ذلك المسعى قامت حينها لجنةٌ من المعارضة السّوريّة من الداخل بزيارةٍ لقامشلو، حيث عقدت اجتماعاً في مجمع الرميلان بمدينة قامشلو مع الأحزاب الكردية، وكان الجسم الرئيسيّ ( الأساسي ) للمعارضة هو التّجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ إلى جانب هيئاتٍ حقوقيةٍ ومنظّمات المجتمع المدنيّ.

كان قسمٌ من هذه المعارضة  متأثّراً بعلاقاته مع بغداد، والقسم الكبير كان متألّماً ممّا حدث في العراق وبعضها كان متوجّساً من نقل التجربة العراقية إلى سوريا، بالرغم من أنّه كان هناك وقتذاك اقتراحٌ من الإدارة الأمريكية بإسقاط البعثيّين في العراق وسوريا، والمعارضة باختصارٍ شديدٍ لم تساهم في توسيع رقعة انتفاضة الكرد.

مصير الانتفاضة

انتفاضة الثاني عشر من آذار أخذت طابعاً قومياً، رغم أنّنا كنّا نأمل أنْ تتسم بالتوازي مع ذلك بصبغةٍ وطنيةٍ أيضاً، إلا أنّ ذلك لم يتحقّق لعواملَ متراكبةٍ، ولعلّ من أهمّها العنف المفرط الذي مارسته أجهزة أمن النظام في قمع الانتفاضة، مستخدمةً الذخيرة الحية، واستهدافها المباشر للمنتفضين؛ فكان بالنتيجة سقوط كوكبةٍ من الشهداء والمئات من الجرحى وآلاف المعتقلين، وكذلك المحاولة الخبيثة للأجهزة الأمنية بإظهار ما جرى على أنّه عمليةٌ تخريبيةٌ مخططٌ لها من قبل جهاتٍ معاديةٍ لسوريا ، كما وجّهت بعض المرتزقة لشنّ حملات نهبٍ وسلبٍ لممتلكات الكرد، طبعاً إلى جانب الكم التراكميّ من الفكر العنصريّ الرافض للآخر في صفوف الكثير من القوى المعارضة وغيرها.

في هذا المضمار تعثّرت الانتفاضة التي لم تتمتّع بقيادةٍ حقيقيةٍ وببرنامج عملٍ مشتركٍ وواضح الأهداف.. إلا أنّنا كما أسلفنا حاولنا الحفاظ قدر المستطاع على النصر والروح المعنوية الكبيرة التي امتلكها الشارع الكرديّ بعد اتحاد الكرد.. كلّ الكرد من الشرق إلى الغرب وصولاً إلى العاصمة دمشق، وسط تضامنٍ شعبيٍّ كردستانيٍّ منقطع النظير في الوطن وبلاد المهجر.. فحاول النظام حينها إجهاض حتى النصر المعنويّ للشعب الكرديّ وتحطيم ذلك الشعور داخله ولدى الرأي العام الوطني والعالمي أيضاً، والذي جعل من الكرد رقماً لا يستهان به في المعادلة السّوريّة المعقّدة، وكذلك أخرج القضية الكردية من حصارها الخانق وتقوقعها  المحليّ، وجعلها قضيةً يتمّ تداولها وطنياً وإقليمياً ودولياً، وذلك من دون شكٍّ يعدُّ من أهمّ مكاسب انتفاضة قامشلو.. فحاول سحق أيّة تحرّكاتٍ ونشاطاتٍ، “سيساهم هو نفسه  في انطلاقها لاحقاً” وثمّ يطفئ تلك الجذوة الثائرة المتّقدة لدى الشارع الكرديّ إبّان انتفاضة قامشلو.. فكان ما كان.. ثمّ تتالت الإجراءات القمعية من قبل السلطات الأمنية والسياسية بحقّ الشعب الكرديّ كتجريد الجنود الكرد في الجيش السّوريّ أثناء تأديتهم للخدمة الإلزاميّة من السلاح وإعفائهم من المناوبات الأمنية ودوريات ونوبات الحراسة، إضافةً إلى الاعتقالات والتضييق على حرية العمل السياسيّ وتكرار حوادث استهداف الكرد عشية عيد نوروز، وإصدار المرسوم /49/ الخاصّ بالاستملاك في المناطق الكردية.

الانتفاضة ظلّتْ جمراً أحمرَ تحت الرّماد

مع استمرار التضييق الأمنيّ على الشعب الكرديّ في سوريا بعد انتفاضة الثاني عشر من آذار، ومحاولات النظام الحثيثة في هدم كلّ ما تم بناؤه من خلال نقطة الانعطاف تلك.. إلا أنّ الكرد استمروا في النضال السياسيّ والسلميّ وبقيتْ رغم كلّ ذلك جذوة النضال وشرارة انتفاضة آذار متّقدةً في فكرهم، وما كانت سوى جمراً تحت الرماد.. بانتظار ربيعٍ تُعلن فيه الثورة من جديدٍ، وكانوا على الموعد وفي طليعة الثورة الشعبية في سوريا في آذار 2011م، وحتى يومنا هذا أثبت الكرد أنّهم كانوا حريصين على حقوقهم القومية وكذلك الوطنية، وأنّهم قدّموا أفضل تجربةٍ في إدارة البلاد مقارنةً مع المناطق الخاضعة لسيطرة النظام أو تلك التي تقبع تحت نير الاحتلال التركيّ ومرتزقته.

الكرد أبطال انتفاضة آذار 2004م، هم نفسهم كانوا روّاد ثورة آذار 2011م ، وهم أنفسهم من هزموا دولة الإرهاب “داعش” ورعاتها، وما زالوا يقاومون كلّ المخطّطات الخبيثة التي تستهدف الكرد.

دروسٌ وعبرٌ

تعدُّ انتفاضة الشعب الكرديّ في الثاني عشر من آذار نقطة انعطافٍ كبرى في تاريخ حركة التّحرّر القوميّ لشعبنا في سوريا، فكانت اللحظة الفارقة التي انتقل فيها الحراك السياسيّ الكرديّ في سوريا من شكله المرتبط بالتنظيمات السياسية ونمطيّتها ورتابتها  المعهودة إلى حالةٍ جماهيريةٍ مهيبةٍ، عمّتْ روجآفاي كردستان على امتداد جغرافيتها التاريخية، ووصلت إلى جميع أماكن التواجد الكرديّ في سوريا، وفي بلاد المهجر، حيث كانت للجالية الكردية وقفةٌ رائعةٌ.

كانت الانتفاضة درساً ورسالةً للجميع بأنّ إرادة الشعب الكرديّ لم ولن تقهرَ أمام آلة القمع والاضطهاد القوميّ ضدّ الشعب الكرديّ طيلة عقودٍ من العنصرية والشوفينيّة المتجذّرة في عقليّة السّلطة المستبدّة.

 كما كان التلاحم الجماهيريّ المنقطع النظير تأكيداً ودليلاً على أنّ إرادة الكرد وتضامنهم  في الأزمات والمحن تتخطّى الخلافات والشقاق السياسيّ الكرديّ، وأنّ وحدة الكرد كفيلةٌ بهزّ عروش المتربّصين به وبهويّته القوميّة والوطنيّة، وبتاريخه المشرق.

بكلّ ثقةٍ نقول الآن: إنّ أبناء انتفاضة قامشلو رسموا خريطة الوجود الكرديّ على أرضهم التاريخية من ديريك إلى عفرين.. واليوم، وبغضّ النظر عن التفاصيل، حقّق  الشعب الكرديّ  في روجآفاي كردستان  ثالث مكسبٍ قوميٍّ في تاريخه الحديث بعد تجربتي جمهورية مهاباد وفيدرالية إقليم كردستان العراق.

 فما علينا الآن كشعبٍ وكحركةٍ سياسيةٍ سوى العمل على صون هذه الإنجاز القوميّ والوطنيّ وتطويره وإصلاحه، وجعله أساساً قومياً صلباً لمستقبل الأبناء في قادم الأيام.. الأمر الذي يستدعي منّا جميعاً- وقبل كلّ شيء- الإسراع في تشكيل المرجعية السياسية الكردية، التي تمثّل آمال وتطلّعات الشعب الكرديّ في سوريا، وتتمتّع باستقلالية قرارها السياسيّ.

*قيادي سياسي وكاتب

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني كان يكبرنا سناً ومحل احترام وتقدير لدينا جميعاً وفي المؤتمر (……) كان بيني وبينه وسادة، لمحته ينظر لوجوه المؤتمرين، هامسته : هل أكملت جدول الانتخاب ..؟. أجاب: مازال قائمتي بحاجة الى بعض المرشحين ..؟!. وضعت ورقتي المليئة بالأسماء التي انتخبتهم حسب قناعتي بهم على الوسادة أمامه، تفضل ..؟. نظر أليَّ باستغراب، رغم ثقته بي ووضع…

صلاح بدرالدين   منذ عدة أعوام ولم تنفك وسائل اعلام أحزاب طرفي ( الاستعصاء ) – ب ي د و انكسي – تنشر تباعا عن تدخل وسطاء دوليين لتقريب الطرفين عن بعضهما البعض ، والاشراف على ابرام اتفاقية كردية – كردية ، وانهاء عقود من حالة الانقسام في الصف الكردي السوري !!، من دون توضيح أسس ، وبنود ذلك الاتفاق…

خالد بهلوي   لم يعد سرًّا أن البلاد تمر بحالة انهيار اقتصادي شملت جميع القطاعات والمؤسسات، والدليل على ذلك المعاناة اليومية للمواطنين من الفقر والجوع والعجز عن تأمين أبسط مستلزمات الحياة اليومية، نتيجة توقّف الرواتب وتسريح الآلاف من الموظفين من أعمالهم. تزامن ذلك مع ارتفاع الأسعار والغلاء الفاحش الذي يزداد يومًا بعد يوم دون أي حلول تلوح في الأفق….

إبراهيم اليوسف سبع سنوات من الظلام تحت الاحتلال التركي ومرتزقته!   لم تكن عفرين ضحية حربٍ عادية، بل كانت ساحةً لأحد أبشع سيناريوهات الاحتلال الممنهج في القرن الحادي والعشرين. إذ أنه منذ اجتياحها واحتلالها عام 2018، دخلتها القوات التركية ومعها جحافل الفصائل المسلحة، الذين لم يكونوا سوى أدواتٍ رخيصة لتنفيذ أجندة أنقرة. تحت قناع “عملية غصن الزيتون”،…