ما أتذكّره في اللحظات الأولى من الانتفاضة، وبعد سماعنا الخبر، هو أنّنا توجّهنا نحو ملعب قامشلو وتحديداً إلى الباب الرئيسي من الخارج، حيث كان الناس يتدافعون لفتح الأبواب؛ بحثاً عن أبنائهم بعد سماع الخبر بأنّ هناك أطفالاً فقدوا حياتهم ، لكنّ قوات الشرطة وحفظ النظام كانوا يمنعون الناس من دخول الملعب؛ لأنّ فريق الفتوة وجماهيره أغلبهم قد كانوا داخل الملعب، وفي هذه الأثناء وصل موكب محافظ الحسكة “سليم كبول” مع عدّة سياراتٍ مسرعة لدخول الملعب، وأثناء وقوف الموكب بانتظار فتح الباب قام بعض الشباب برشق الموكب بالحجارة، حيث دخل الموكب إلى الملعب وأصبح التّجمّع أمام الباب بالمئات، وخلال ذلك قام عددٌ كبيرٌ من عناصر حفظ النظام والشرطة بإطلاق النار بكثافةٍ وتدافع الناس فوق بعضهم هاربين من الرصاص باتجاه شارع عامودا.
وفجأةً وقع أحد الشباب بجانبي على وجهه، حاولتُ أنْ أسحبه وحدي باتجاه شارع عامودا وهو يتنفّس آخر أنفاسه كون الطلقة دخلت من رأسه وخرجت من عينه، لكنّني لم أفلح في سحبه وتمّ سحبه من رجليه ووضعوه داخل الملعب، كان هذا المشهد غريباً عليّ فلم أشاهد قبلاً إطلاق نارٍ بهذه الكثافة، ظننتُ أنّ المئات من الناس قُتلوا في تلك اللحظة؛ فأغلب الناس تجمّعوا أمام مشفى فرمان؛ بحثاً عن الجثث والجرحى.. كانت الأخبار متضاربةً جداً، بعضٌ يتحدّث عن وجود سياراتٍ تنقل الجثث إلى المشفى الوطني في قامشلو، لقد كانت أجواء رعبٍ وترهيبٍ؛ فإطلاق الرصاص كان كثيفاً ويظهر أنّ حرباً حقيقيةً تشنّ من قبل قوات النظام، ولكنّها ضدّ المدنيّين العزل..!.
حماس الشباب الكرد لم يكن مفاجئاً، فالحدث جاء بعد إسقاط النظام العراقيّ 2003م، والتفاؤل كان سائداً بأنّ الدور القادم سيكون دور النظام السُّوريّ وكافّة أنظمة الاستبداد في المنطقة.
قبل هذا الحدث بشهرٍ كانت المفاجأة بالاستقبال الكبير للقياديّين من حزب يكيتي الكرديّ حسن صالح ومروان عثمان عند خروجهما من سجن النظام بدمشق، وقبلها بأيامٍ كانت ذكرى وفاة الفنان محمد شيخو فقد كان استذكار تلك المناسبة مختلفاً عن السنوات السابقة من حيث الحماس والمشاركة الواسعة لجيل الشباب الكرديّ، وكان لحزب يكيتي الكرديّ وكوما قامشلو دورٌ كبيرٌ في هذه النشاطات، وبالتالي كان هناك حماسٌ لدى الشارع الكرديّ سبق هذه الانتفاضة وكان اندفاعاً مميّزاً وقتها.
قامت الحركة الوطنية الكردية ومنذ بداية الانتفاضة وفي اليوم التالي أثناء تشييع جنازات الشهداء بمسك زمام الأمور وانخرطت بين صفوف الجماهير وأصدرت بياناً باسم مجموع الأحزاب الكردية ووجّهت الجماهير إلى ضرورة الالتزام بسلميّة المظاهرات ونتيجة لذلك استنفرت قوات النظام وقيادته وتوجّهوا إلى قامشلو، واجتمعوا بالأحزاب الكردية وطلبوا وقف هذا الطوفان، وهذا في حدّ ذاته كان تحدّياً صعباً، ولا سيّما أمام قمع النظام وعدم مشاركة بقية المكوّنات نتيجة سياسات وأساليب النظام والتحريض الطائفيّ من قبله ، بالإضافة لعدم نضج العامل الدولي حينها، حيث أدّت كلّ هذه الأسباب وغيرها إلى توقّف الانتفاضة.
التحم الشارع الكرديّ من ديرك للعاصمة دمشق وحتى في الشتات وقدّم دروساً في التضحية ولم يركع للآلة الوحشية للنظام السُّوريّ وأجهزته القمعية، وبصدورٍ عاريةٍ واجهوا قمع النظام، وردُّ النظام لم يكنْ مفاجئاً لنا، فقد استخدم الرصاص الحيّ في قمع الشباب الكرديّ الأعزل وسقط العديد من الشهداء والمئات الجرحى وما تزال تداعيات تلك الإصابات ملازمةً للكثير من الشباب الكرديّ رغم مرور 19 عاماً على الانتفاضة.
إنّ النقطة المضيئة في الانتفاضة هي أنّها انطلقت من حدثٍ رياضيٍّ وتحوّلت إلى انتفاضةٍ عارمةٍ تجاوزت الحدود وحافظت على سلميّتها وأربكت النظام السُّوريّ والأهم من كل ذلك أنّها وحّدت الشارع الكرديّ بكلّ قواه السياسيّة والمجتمعيّة.
أمّا بالنسبة للمواقف الدولية فلم تكن جدّيّةً نتيجةً لتقاطع مصالح الدول مع النظام السّوريّ، فقط كان هناك استنكارٌ من منظمّاتٍ حقوقيةٍ، لكنّها غير حكوميةٍ لم ولن تؤثّر على مجريات الأحداث؛ لذا استمرّ النظام في قمعه؛ لأنّه لم يكن هناك من رادعٍ له.
وللأسف كانت أغلب وسائل الإعلام حينها تدار من قبل الأنظمة الحاكمة وخاصة العربية منها، وبسبب ضعف الإعلام الكرديّ وامتلاك النظام السّوريّ لإمبراطوريةٍ إعلاميةٍ وتأثيره المباشر على مصادر القرار في كثيرٍ من القنوات الإعلامية العربية؛ فقد استطاع تشويه صورة الانتفاضة وأهدافها أمام المشاهد العربيّ.. أمّا الإعلام الغربيّ فلم يكن تداوله للانتفاضة بمستوى الحدث والتضحيات، فقط كان يتمّ التركيز على بعض الفيديوهات للناشطين الكرد ومن دون تأثيرٍ فعّالٍ أو تحوّلٍ ضاغطٍ على جرائم النظام.
المواقف الكردستانية هي الأخرى كانت مرتبطةً بعدة عوامل خارجةٍ عن إرادتها ومع ذلك كان موقفاً مميّزاً من الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ- العراق وذلك عبر إعلانه الوقوف إلى جانب حقوق شعبنا وتأكيده على ضرورة وقف القمع ضدّ المتظاهرين العزّل واللجوء للحوار لحلّ القضية الكردية، ولاننسى التعاطف الكردستانيّ في الأجزاء الأربعة مع الانتفاضة.
ثمّ إنّ الإعلام الكرديّ وقتها كان مقتصراً على بعض المواقع الإلكترونية وتقنيات (السوشال ميديا) لم تكن متاحةً كما هو الحال اليوم، ومع ذلك فإنّ صوت الانتفاضة اجتاز الفضاء المحلّيّ.
الجالية والفعاليات الكردية في الخارج كان دورها فعّالاً ومؤثّراً من خلال الاحتجاجات في الكثير من البلدان وفضح ممارسات النظام والاعتصام أمام العديد من المؤسسات الدولية ونشر صور شهداء الانتفاضة، لقد ساهموا بشكلٍ مؤثّرٍ في إيصال صوت الانتفاضة ومعاناة الكرد للعالم.
فرضت الانتفاضة الكردية حالة واقع شعبٍ، وقضيةً مهمّشةً من قبل النظام السُّوريّ، فقد أحدثت تحوّلاً نوعيّاً في تاريخ الكرد في سوريا وتضحياتهم، وكسرت حاجز الخوف والرعب الذي سلّطه النظام السُّوريّ على رقاب السّوريّين طيلة عقودٍ، فكانت الانتفاضة هي الجرعة المنشطة للثورة السّوريّة 2011م، فلم يخسر الكرد سوى قمع النظام وممارساته الوحشية بحقّ المتظاهرين السلميين وسقوط بعضهم شهداءً وجرحى فكانوا بذلك نبراساً للتضحية في سبيل القضية.
لكي نكون أوفياء للانتفاضة والقضية يجب أنْ نناضل ونضحّي في سبيل تحقيق أهداف تلك الانتفاضة وألا تذهب دماء الشهداء سدىً، وإنّ إعلان يوم 12 آذار يوماً للشهيد الكرديّ في كردستان سوريا وزيارة مقابر الشهداء واستذكارهم من قبل الحركة الوطنية الكردية والفعاليات المجتمعية لهو تعبيرٌ عن الالتزام بقيم الانتفاضة، علينا أنْ نرصّ الصفوف ونأخذ الدروس والعبر من انتفاضة آذار المجيدة، فشعبنا عانى كثيراً من الظلم والاستبداد ويستحقّ أنْ يعيش بحرّيّةٍ وكرامةٍ وهو الاختبار والتّحدّي الحقيقيّ لمصداقيّتنا.
-
قيادي سياسي
