قمع النّظام الانتفاضة بمنتهى القسوة، وبلغ عدد المعتقلين نحو سبعة آلافٍ من الفتية والشباب وكبار السّنّ وبينهم نساءٌ.. وقد مارس معهم أشدّ أنواع التعذيب مثل: تكسير الأسنان، وقلع الأظافر، والصعقات الكهربائية، وتوفي بعضهم تحت التعذيب كالشهيد الشاب فرهاد محمد صبري.
وجلب النظام قواتٍ عسكريةً كبيرةً بقيادة ماهر الأسد إلى الجزيرة، وطوّق الجيش والأمن قامشلو وبقية المدن والبلدات الكردية، وقامت بفصل الكثير من طلبة الجامعات والمعاهد، ونظم النظام مسيراتٍ ضدّ الكرد في الحسكة وزورآفا في دمشق، وفي قامشلو حاول دفعَ بعض رموز العشائر العربية للقيام بمسيراتٍ أيضاً، لكنّها كانت محدودةً، وقام بعض الهمج بنهب وتكسير بعض المحلات في السوق.
في يوم السبت 13 آذار اتفق مجموع الأحزاب الكردية بما فيها حزب الاتحاد الديمقراطي وعددها 12 حزب على مساندة الكرد المنتفضين ضدّ طغيان النظام، وقادوا مسيرةً جنائزيةً، حيث نقل جثمان أربعة شهداء من جامع قاسمو في قامشلو بمشاركة مئات الآلاف، ورفعت العلم القومي الكرديّ متوجّهين إلى مقبرة قدور بك بشكلٍ سلميٍّ لكنّ الشباب المنتفضين هاجموا بعض مراكز النظام عند مبنى مدينة الشباب والجمارك ومخفراً عند كراج قامشلو وأماكن أخرى كردّ فعلٍ على إطلاق النار من قبل عناصر النظام وسقوط المزيد من الشهداء والجرحى، وعند مقبرتي قدور بك والهلالية، ندّد ممثلو مجموع الأحزاب الكردية بجرائم النظام، وطالبوا بمحاسبة المعتدين، وإطلاق سراح المعتقلين، وإيجاد حلٍّ ديمقراطيٍّ للقضية الكردية..
في هذه الأثناء اتسعت دائرة الانتفاضة لتشمل عامودا والدرباسية وسري كانيه (رأس العين) وديريك وتربه سبي والحسكة، حيث تمّت مهاجمة بعض مراكز الأمن والشرطة وحزب البعث، وتمّ تحطيم تمثال الرئيس حافظ الأسد في عامودا، وسقط شهداء في سري كانيه وديريك والحسكة، كما نهب المدفوعون من النظام في الحسكة وسري كانيه متاجر الكرد..
في 14 آذار هاجمت الجماهير الغاضبة في كوباني مراكز الأمن والشرطة، وسيطرت على المدينة وفي 16 آذار وصلت الانتفاضة إلى الأحياء الكردية في حلب وجامعاتها ومدينة عفرين.. وتضامناً مع انتفاضة قامشلو خرج الكرد بحيّ زورآفا في دمشق بمظاهراتٍ صاخبةٍ، وأحرقوا سيارةً للشرطة، وخرجت مظاهراتٌ في جامعة دمشق وأمام البرلمان.. وأقرّ وزير الداخلية السّوريّ آنذاك بمقتل 19 شخصاً في الجزيرة و6 أشخاصٍ في حلب وعفرين، وقد خرجت مظاهراتٌ صاخبةٌ في كردستان العراق، وغطّت صحافتها وقناتا كرد سات وكردستان أنباء الانتفاضة، وتضامنت معها قيادات أحزاب الحركة الكردية هناك، وكان تضامن الجالية الكردستانية في الخارج قوياً وملحوظاً، حيث خرجت مظاهراتٌ سلميةٌ في العديد من المدن الأوروبية وقام الإعلام بتغطيتها.
في أواخر شباط 2004م، كنتُ في مدينتي قامشلو، أستقبلُ المهنّئين بإخلاء سبيلي من اعتقالٍ دام سنة وأكثر من شهرين في سجن عدرا؛ لأسبابٍ سياسيةٍ إثر مشاركتي في قيادة مظاهرةٍ سلميةٍ نظّمها حزبنا الحزب اليكيتي الكرديّ أمام البرلمان السّوريّ ضدّ سياسة التمييز والاضطهاد من قبل نظام بشار الأسد وحزب البعث الحاكم بحقّ شعبنا الكرديّ.
وقد تفاجئنا بحدثٍ كان له تأثيرٌ كبيرٌ في منطقتنا وعلى مستوى سورية.. فبينما كان الناس ينتظرون حصول مباراةٍ بكرة القدم يوم الجمعة 12 آذار 2004م حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث قدم نادي الفتوة من دير الزور مع جمهوره بعشرات السيارات، وساروا في شوارع قامشلو بصورةٍ استفزازيةٍ، وعلت منهم صيحاتٌ تقول: (جينا ندافع عن اثنين فتوة وصدام حسين..)، (وهذا دليلٌ على رغبة الانتقام من الكرد بعد سقوط النظام العراقي عام 2003م على يد أمريكا وتحالفها الدولي) وعندما وصل الفريق الضيف إلى ملعب قامشلو لم تقم الشرطة بتفتيشه رغم أنّه كان يحمل العصي والحجارة وبعض الأسلحة، ممّا يدلّ على وجود خطةٍ مسبقةٍ.. أمّا نادي الجهاد (وأغلبية لاعبيه من الكرد) فقد تمّ تفتيشهم بدقّةٍ..! وعلى أرض الملعب استمرّ فريق الفتوة في صيحاته وشعاراته العدائية ضدّ الكرد ممّا أدّى إلى التصادم، وهنا انحازت الشرطة وقوى الأمن إلى هذا الفريق الذي ضرب وجرح الكثير من لاعبي فريق الجهاد، وعندما سمع جمهوره بما حصل على أرض الملعب هرعوا بالآلاف، لكنّ السلطة بقيادة محافظ الحسكة اللواء (سليم كبول) تعاملت مع الكرد بكلّ وحشيةٍ وأمرت بإطلاق النار على المدنيين العُزّل، حيث سقط العشرات جرحىً وثمانية شهداء.. وهذا التعامل الكيديّ دلّ على أنّ النظام السّوريّ- بعد سقوط نظام صدام حسين وفتح المجال أمام الشعب الكرديّ في كردستان العراق أنْ يتحرّر من الظلم والاستبداد- خشي أنْ تنتقل أجواء الحرية إلى سورية؛ فأعدّ خطةً للإيقاع بين الكرد والعرب وتكريس روح الكراهية والعداء بينهم، وصرف أنظارهم عن استبداد النظام وطغيانه.. وكردّ فعلٍ طبيعيٍّ أقدم شباب الكرد الغاضبون في بعض شوارع مدينة قامشلو، وخاصةً في شارع مشفى فرمان الذي استقبل بعض الجرحى، على وضع حواجز في الشارع وتفتيش المارّة؛ بحثاً عن الضالعين في الاعتداء على جماهير فريق الجهاد..
في المجال الإعلامي كانت قناة روج التابعة لـ pkk تغطّي وقائع الانتفاضة.. أمّا القنوات العربية كالعربية والجزيرة وقناة حرة الأمريكية فركّزت كثيراً على ما كان يجري، وعلمنا منها أنّ الخارجية الأمريكية طلبت من السلطات السّوريّة الكفّ عن قمع الكرد، وحلّ قضيتهم عن طريق الحوار، وكذلك فعل سفير النرويج في دمشق، ورغم ادعاء النظام بوجود أيادٍ خارجيةٍ تدعم الكرد، وخاصةً أمريكا، فإنّ الرئيس الأسد في مقابلةٍ مع قناة الجزيرة بعد شهرين من الانتفاضة ذكر أنّ التحقيقات لم تثبت وجود أيدٍ خارجيةٍ، وأنّ الشعب الكرديّ جزءٌ من النسيج السّوريّ، ولوحظ أنّ النظام كلّف اللواء هشام بختيار واللواء محمد منصورة ومحافظ الحسكة وآخرين باللقاء مع بعض الوجهاء الكرد في الجزيرة، واستخدموا معهم لغة التهديد والوعيد من جانبٍ والتّودّد من جانبٍ آخر، وقد تحدّث بعض الكرد مثل إبراهيم باشا المللي ومحمد حسن إبراهيم بضرورة حلّ المشكلة الكردية، وإنهاء سياسة التمييز والحرمان من الحقوق.. ورغم تكاتف الكرد جميعاً مع قواهم السياسية، وسعي مجموع الأحزاب الكردية للقاء الرئيس بشار وآخرين من المسؤولين، لكنّ ذلك لم يحصل.. فالنظام لم يكن جادّاً في الحوار وفي الحلول؛ لأنّه نظامٌ أمنيٌّ وقمعيٌّ..
رغم تقديم الكرد للضحايا وتعرّضهم لحملات القمع والاعتقال.. ورغم تضامنهم وبروز قضيتهم إعلامياً، وإلقاء الأضواء عليها، وقيام بعض منظّمات المجتمع المدنيّ، وبعض رموز المعارضة السّوريّة بزيارة قامشلو والاطلاع على واقع الكرد ومطالبهم.. فإنّ النظام حاول تهدئة الأمور وأخلى سبيل أعدادٍ كبيرةٍ من المعتقلين لدى الأجهزة الأمنية، وأسرع في محاكمة أعدادٍ كبيرةٍ في المحاكم العسكرية، ولم يمضِ عامٌ واحدٌ حتى أُخلي سبيل معظمهم، وأعتقد أنّ انتفاضة كردستان سورية قد هزّت أركان النظام، لكنّ الحركة الكردية لم تكن بالمستوى المطلوب لقيادة الانتفاضة واستمرارها، كما أنّ سياسة القمع وكمّ الأفواه، والحكم الدّكتاتوريّ، وغياب معارضةٍ منظّمةٍ وقويةٍ، وعدم قدرتها على مساندة الكرد حال دون استمرار الانتفاضة.
* قيادي سياسي ومعتقل سابق