كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة الرابعة عشرة (شمدين نبي*)

كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر أثناء عودتنا من بروڤا (فرقة نارين) للفنّ والفلكلور من قرية اللطيفية، وكان يوم الجمعة، حيث كان موعد مباراة الجهاد والفتوة، وذهب بعض شباب الفرقة لحضور المباراة وأنا عدتُ للمنزل وخلدتُ للنوم..

ولم يمضِ من الوقت إلا القليل وإذا بباب البيت يُطرَق بقوةٍ، وكنتُ قد فقدتُ التوازن من صوت الباب، وحين فتحتُ الباب رأيت زملائي الشباب الذين ذهبوا لحضور المباراة يرتجفون من شدّة الخوف.. قالت (ريناس أبو صالح): (قامت القيامة في الملعب قتلوا الشباب..) ولا ندري كيف خرجنا بسرعةٍ إلى الشارع.. أصبحت قامشلو في أعيننا كتلةً من الحزن، والسواد يعمّ المدينة، اجتمعنا في منزلي واتصلت بي قيادة الحزب، الحزب الديمقراطيّ الكرديّ في سوريا (البارتي)، وأخبرتنا أنْ نكون سلميّين غداً أثناء تشييع جنازة الشهداء.

في صباح اليوم الثاني اتجهنا إلى جامع قاسمو في الحي الغربي، وكانت المدينة مغلقةً، حيث اجتمع أمام جامع قاسمو كلّ أهالي قامشلو من الكرد، رغم الوجود الأمنيّ الكثيف جداً، ولكنّ الشعب أصرّ على كسر حاجز الخوف والقيام بواجبه تجاه شهدائه، حيث وصلنا بالجنازات إلى دوار(سبع بحرات)، فخرجت عشراتُ من سيارات بك آب الأمنية محملةً بعناصر مسلّحة، كأنّهم يتجهون إلى الجبهات ضدّ إسرائيل..

بدأ عناصر الأمن بإطلاق الرصاص الحي من جميع الجهات، ولم نعد نعرف من أين المفرّ..؟ ولم نرَ أنفسنا إلا أمام جامع سلمان الفارسي القريب من دوار الصوامع، وهنا بدأ النظام برمي الرصاص الحي على المواطنين العُزّل، وبدأ الصراخ وأصيب العشرات واستشهد بعض الشباب، وكان عدد المصابين يفوق الخيال، هرب منهم من هرب من رصاص الإجرام، وبقي القليل ضمن الشوارع الفرعيّة، وبظلّ الشعب الكرديّ اليتيم، كالعادة، من دون أيّ سندٍ، وبدأتِ الاعتقالات الهمجية من قبل فرع أمن الدولة، الذي كان أول من بدأ برمي الرصاص الحيّ على الشعب، وكان من نصيبي الاعتقال، حيث تمّ اعتقالي بتاريخ 17 آذار من قبل الأمن السياسي في قامشلو ليلاً، وبقيتُ 3 أيامٍ، وكان معي مجموعةً من الشباب من المدينة، ثمّ طلبني المحقق ولم يتحدّث معي أبداً حتى عن اسمي لم يسألني، فقط قال: (أنت مطلوبٌ للفرع في مدينة الحسكة).

وفي صباح اليوم الثاني حوالي الساعة السادسة صباحاً، وضعونا في سيارة فوكس واتجهوا بنا إلى مدينة الحسكة، كنا نضحك ونقول: اعتقالنا سياسيٌّ من أجل قضيتنا.. وصلنا إلى الحسكة، وقبل الدخول، أُنزلنا في ساحة الفرع مباشرةً، وطلبوا منا أنْ نخلع كلّ ملابسنا.. هنا عرفنا بأنّ الوضع مختلفٌ وكلّ شيءٍ هنا يشير إلى أنّ رحلتنا مع العذاب الإهانة قد بدأت، وكان لديهم الوقت الكافي لتعذيبنا وإهانتنا، وكلّما انتهى عنصرٌ منا يأتي عنصرٌ آخر ويبدأ من جديدٍ بإهانتنا وضربنا وشتمنا.. هكذا لمدة أسبوعٍ، حيث تمّ طلبنا من قبل (اللجنة الأمنية)، كنا مجموعةً من الشباب، أتذكّر منهم جيداً: الدكتور دورسن من سرى كانية، والعمّ خليل مسؤول التموين في قامشلو، والشهيدين فرهاد ونصرالدين برهك، وهنا سوف أتحدّث عن الشهيدين:

الشهيد فرهاد: 

عندما أخذوا الشهيد فرهاد وعاد إلينا كانت رجلاه الاثنتان قد تورّمتا من الضرب، وضعنا رجليه في وعاء ماءٍ، وقلتُ له: هيّا ارقصْ (كورمانجي)، وأصبحنا نضحك، أعطيتُه سيجارةً، حيث كان التدخين مسموحاً في سجن الحسكة.

الشهيد نصرالدين برهك:

حين تمّ ترحيل الشهيد نصرالدين برهك إلى دمشق العاصمة، أعتقد أنّهم أخذوه قبل مجيء الشهيد فرهاد بيومٍ واحدٍ، وكان للشهيد نصرالدين نهفاتٌ رائعةٌ معنا، حيث سرد القصص والأغاني القديمة عيششان وحسن زيرك ومحمد عارف، ولكنْ في الحقيقة كان الأمن يركّز جداً على الدكتور دورسن، وماموستا خليل، والأستاذ نصرالدين برهك بالإهانة وبأسلوبٍ منحطٍّ أخلاقياً واجتماعياً.. وخرجنا من السجن واستُشهد أصدقاؤنا. 

والقصة تطول.. وتبقى انتفاضة 12 آذار حرّةً خاليةً من التّحزّب، أو أية أجنداتٍ أخرى، كانت انتفاضةً عفويّةً، ولو طالت مدّةً أكثر؛ لكانت حقّقت نجاحاً عظيماً، ولكنْ حصل ما حصل من إجماع الحركة الكردية بكردستان سوريا. 

وجديرٌ بالذكر بأنّ الإعلام الكرديّ في قامشلو كان ضعيفاً جداً، وأدواته الإعلامية كانت محدودةً، حيث كانت الاجتماع في منزل الأستاذ إبراهيم يوسف، وجمع المعلومات وإرسالها إلى أوروبا والجهات المعنية من منظماتٍ حقوقيةٍ وغيرها.. واليوم نستذكر هذه الانتفاضة العظيمة للشعب الكرديّ في سوريا وعيوننا تدمع على الشهداء دماً.

 

* ناشط سياسي من معتقلي الانتفاضة

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…