في متوالية الاستقواءات حين يفقد العالم شرعيته

إبراهيم اليوسف

 

لم تقول: آه ياظهري

وقد بقرت بطنك؟

– لو كان لي ظهر لما طعنت بطني

مثل كردي

ما من ظاهرة تفضح عطب العالم مثل متوالية الاستقواءات التي تتوالد كأنها سلسلة طُبعت بها حركة السياسة على رقعة الوجود. ومعروف أن من شأن الضعيف ألا يجد ملجأ إلا بالاحتماء بمن هو أقوى منه، ليس حباً في التبعية، وربما ليس بالمحتمى به، بل اتقاءً من لفناء. والقوي، في المقابل، لا يكتفي بقوته، بل يعتصم بقوة أعلى: قوة المال، قوة الغيب، قوة السوق، قوة السلاح، أو حتى قوة الغيب المصطنع المسمى تقوى.

لكن حين يُدين العالم استقواء الضعيف، ويغض النظر عن استقواء المستبد القاتل، نكون قد دخلنا مرحلة ما بعد الغابة: عصر البلطجة المقننة، حيث لا صوت للحق إلا إذا مرّ عبر فلاتر المصالح، ولا عدالة إلا بمقدار ما تخدم أرباب المنصات الكبرى.

الاستقواء، في جوهره، لحظة انكشاف. لحظة مواجهة مع الحقيقة: لا أحد يُنقذ الضعيف سوى الاحتماء بالآخر. لكن حين” يُشيطن” هذا الضعف، ويُفبرك له خطاب الإدانة، ويُمنح القوي صكّ البراءة رغم قسوته، فنحن أمام هندسة جديدة للظلم: ظلم مطوّر، ذكي، مُنتج جماهيرياً، له ناطقون رسميون، وله من يصوغ له الخطاب باسم الشرعية.

هنا، تبرز المفارقة الأشد مرارةً: من يُهاجَم لأنه استقوى دفاعاً عن وجوده، لا يُغتفر له ذنبه، في حين أن من استقوى لقهر الشعوب، لتمزيق الخرائط، لنهب الثروات، يُمنح منصات الاحتفاء، ويُكرّم بصفته راعياً للاستقرار. أي استقرار هذا، حين يكون ثمنه حياة الشعوب؟

إن ما يُرتكب من عمليات نفي، تهجير، إقصاء، وقتل معنوي وجسدي، تحت غطاء الاستقواء الأكبر، هو إعلان سافر عن سقوط العالم الأخلاقي. حين يُمنع المُلاحق من أن يدافع عن نفسه، يُصبح الدفاع تهمة، ويغدو الخلاص خيانة، ويُختصر كل شيء في تسميات جاهزة: إرهاب، فوضى، عدو، حليف، بحسب من يصكّ التعريفات.

ولعل أوضح مثال على غياب الشرعية والعدالة هو ما يعانيه الكردي. لا حليف له سوى صبره، لا سند له سوى أرضه، لا دعم له إلا تضحياته. يُؤتى به إلى طاولة الحاجة حين يُراد منه أن يُقاتل ضد الإرهاب، ثم يُبعد من المشهد بعد إنجاز المهمة، لأن العالم لا يعترف بالحق، بل يعترف بالقابل للتوظيف. وهكذا تُصبح المعركة، في جوهرها، ضد التوظيف أكثر من كونها ضد الإرهاب ذاته.

إن الاستقواءات الطارئة موقوتة، لا تدوم، وهي ليست حلاً، بل حيلة. وحدها الشرعية، وحده القانون، يمكن أن يكون بديلاً محترماً. لكن القانون غائب، والشرعية مُصادرة، والقرارات الكبرى تصدر عن غرف” البلطجية”، لا من ضمير العالم. ومن في قمة الهرم، كثير منهم، ليسوا سوى لصوص ربّما بدلاتهم أغلى من الدول التي يتحكمون بمصيرها.

فما الجدوى من الحديث عن نظام دولي؟ أين القانون حين تُوزّع صكوك الإدانة والبراءة بمقاييس السوق، لا بمقاييس القيم؟ من ذا الذي فوّضهم أن يتكلموا باسم الحق؟ الحق بلا حارس، يُغتال كل يوم في أروقة الدول التي تدّعي صناعته.

نحن، بلا مواربة، نسير نحو الهاوية، فيما لو استمر الحال كما هو عليه. عالم كهذا لا يمكن أن يكتب له الاستمرار، لأنه ببساطة، يعيش في فراغ أخلاقي. ووسط هذا الخراب، ثمة شعوب تقاتل ليس من أجل السلطة، بل من أجل البقاء. شعوب لم يكن لها من خيار سوى الاستقواء، لأن أحداً لم يعترف بوجودها أصلاً.

وحده الكردي، في هذه المتاهة، يعرف تماماً أن لا أحد له. لذلك ظل يستقوي بصبره، بدمه، بأمه التي تخبز خبز الثورة، وأبيه الذي يُعلّق خريطة بلا دولة على الجدار، وأطفاله الذين لم يعرفوا مدرسة، لكنهم حفظوا شكل البنادق جيداً.

الاستقواء، حين يكون من أجل الحياة، ليس نقيصة. النقيصة أن يُستقوى بالشر لاستمرار الاستبداد، وأن يُمنح هذا الشر مشروعية، بينما يُحرم المظلوم حتى من الاستغاثة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…