د. محمود عباس
وكأن الله كان هناك، يرقب من خلف غيمةٍ صامتة، حين صعدت الفتيات الإيزيديات إلى الجبال، عارياتٍ من كل شيء إلا من الذعر. وكأن صمته كان جزءًا من المشهد، حين ارتفعت راياته السوداء فوق القرى، لا لتبشّر بنوره، بل لتعلن بدء مجزرة جديدة، تُكرّس وصمة العار على جبين الإنسانية، وتُنطق الأرض بما سكتت عنه السماء.
ما جرى في شنكال، حيث اقتيد آلاف الكورد الإيزيديين إلى العبودية والذبح، لم يكن جريمة ضد جماعة فحسب، بل كان طعنًا في قلب الإنسانية، تحت راية الله، لا بل باسمه، راية سوداء، يُقال إنها تنطق بالشريعة، وتُمثّل الإله، لكنها في الحقيقة راية تُغطّي جثث الأبرياء، وتُخفي خزي القَتَلة.
ليست داعش وحدها من حمل تلك الراية، بل شاركتها النصرة (هيئة تحرير الشام) في المعنى، والأسلوب، والغاية، وإن غيّرت اللباس واختارت ألفاظًا أنعم (أحمد الشرع (أحد منظّري تلك المرحلة المظلمة، لم يكن بعيدًا عن الكوارث التي وقعت في العراق، وهو ذاته اليوم يُعيد إنتاج الخطاب التكفيري داخل سوريا بثوبٍ أكثر حداثة، لكنه خطاب لم يتغير، بل ازداد احترافًا في تغليف المجازر بمفردات الدولة والدين معًا.
لا أبرئ النصرة، وهي نفسها هيئة تحرير الشام اليوم، من مجازر شنكال، لا فكريًا ولا عمليًا، فهي الامتداد الطبيعي لنفس البنية، ذات النصوص، ذات الشعارات، ذات الآلية في تحويل الله إلى أداة، وزعيمها (أبو محمد الجولاني) الذي نصّب نفسه وجهًا لمرحلة سورية جديدة، لا يُمكن فصله عن الجريمة الكبرى، إذ يُعاد اليوم توظيف الوطن والوطنية، ليُلقيا في غياهب التكفير، تحت نفس الأدبيات التي حرّكت الإرهاب الداعشي.
نعم، ما يُرتكب اليوم في الساحل السوري، من محوٍ للآخر، ومصادرة للهُويّات، وتهشيمٍ لكل ما لا يشبههم، ليس إلا نسخة مصغرة من شنكال، المجازر تتكرر، والراية نفسها ترتفع، فقط الاسم تغيّر.
يُقال إنهم يجرّمون تحت عين الله.
لكن أيّ إله هذا الذي يُرفع اسمه فوق المجازر؟
أيّ ربّ هذا الذي تُذبح باسمه الطفلات، وتُسبى النساء، وتُباد القرى؟
أهو الإله الحقيقي؟ أم هو مجرد نسخة مُصنّعة في أقبية الأيديولوجيا، ومختبرات السُلطة المتلفعة بالدين؟
أيّ سماء هذه التي لم تتشقق حين سُبيت الأجساد، وتحوّل الدين إلى قيد، والنصوص إلى سيوف؟
الله، حين يُصبح ذريعة للذبح، مسيرة تختزل قرونًا من الدم المسفوك تحت رايات المقدس، وتجعل الإنسان يتوقف لا ليشكك في الله، بل في صورة الله التي رُفعت فوق المجازر.
المشكلة لا تبدأ بالجريمة، بل تبدأ بالقداسة التي تسبقها، فحين يُقدَّم القتل على أنه طاعة، وحين تُقدَّم النساء كـ “سبي حلال”، فإننا لسنا أمام جماعة متوحشة فقط، بل أمام صورة لإله مشوه، تُرفع رايته فوق جماجم الأطفال.
كل شيء يحدث باسم الله:
تفجيرات، مذابح، حصار، اغتصاب، تهجير…
ثم يُكتب على الجدار: “نُصرة لدين الله.”
أليس في هذا ما يجعلنا نتساءل، هل الله موجود في هذا المشهد؟
أم أن اسمه يُستخدم كقناع، بينما الحقيقة هي مجرّد وحشية خالصة تبحث عن غطاء مقدّس؟
الغياب الإلهي، صمت السماء على مجازر الأرض، في تلك الليالي التي بكت فيها شنكال، كان العالم يتفرّج، والسماء لا تُعلّق، لا آية هبطت، ولا عذاب نزل، ولا صوت نادى من علياء العدالة.
هل كان الله ينظر بصمت؟ أم أنه لم يكن هناك أصلًا؟
هل سُحبت العدالة من العالم، أم أن الصورة التي رسمناها لله كانت كاذبة منذ البداية.”
فإذا كان الله حقًا موجودًا، فلماذا كان الصمت لغته في شنكال؟
ولماذا لم تكن رحمته أسرع من بنادقهم، ولماذا لم يكن غضبه أعظم من سكاكينهم؟
جليلة، فتاة إيزيدية كانت تبلغ من العمر 12 عامًا، اختُطفت من قبل تنظيم داعش في عام 2014، روت تجربتها المريرة: “كان الرجال يأتون لانتقائنا، وعند مجيئهم، كانوا يأمروننا بالوقوف ثم يفحصون أجسادنا، وكانوا يأمروننا بإظهار شعورنا ويضربون الفتيات أحيانًا إذا رفضن، كانوا يلبسون الدشداشة ولهم لحى وشعور طويلة.”
قال سيوران:
“الله هو صمت الكون، وكل ما عداه صراخ عبثي.”
والحق أننا لم نسمع من هذا الكون سوى صمتٍ عميق، تُقابله صرخات لا تنته، لازالت الرايات تُرفع، والمجازر تتوالى، واسم الله يُساق كذريعة تُطهّر الدم بدمٍ آخر.
الإله الحقيقي، لا يحتاج سيفًا ليُعبد، ولا نارًا ليُتّبع، الإله الذي يستحق أن يُؤمن به، لا تُكتب المجازر باسمه، ولا تُخاض الحروب تحت رايته.
فإذا كان الله هو العدل، فإنّ من يرتكب المجازر باسمه إنما يهدم معناه قبل أن يذبح ضحاياه.
وإذا كان أحمد الشرع وقادة النصرة الآخرين قد تغيّروا اليوم، وكفّروا عن جرائمهم بعدما استلموا السلطة في سوريا، وأصبح هو رئيسًا للجمهورية، وسائرهم وزراء وألوية ونُخبًا سياسية، فلماذا لا يُمنَح العلويون، الذين كانوا، وتحت ظروف القمع الدموي للنظام البائد، مواطنين مسالمين، وأبناء سوريا مثل غيرهم، حق التغيير أيضًا؟ لماذا نُدين الطائفة كلّها ونُبرّئ من تحوّل من منظمة إرهابية إلى ما يسمى بقوات الدفاع المدني؟ أليس في هذا ميزان مائل، لا يخدم سوى إعادة إنتاج الكراهية تحت مسمّى جديد؟
إننا لا نستطيع أن نُدين أحدًا باسم طائفته، ولا أن نغفر لآخر باسم مصالحه السياسية، فإما أن نكون أبناء عدالة واحدة، أو نكون جميعًا ضحايا لراية واحدة، تُرفَع فوق الله نفسه.
أخطر ما يمكن أن يُصاغ في لغة المقدس، هو الجريمة.
فحين تتحول مفاهيم مثل “الجهاد”، “الحور”، “الولاء والبراء” إلى أدوات في يد التكفيريين، فإننا لا نواجه بشرًا، بل نواجه آلهة صغارًا يرتكبون ما يشاؤون باسم إله أكبر.
الرايات التي رُفعت في شنكال وسوريا لم تكن رايات قبائل ومنظمات، بل رايات باسم الله.
وكان كل قتل يسبق بعبارة “الله أكبر”.
لكن أيّ “أكبر” هذا الذي يُذبح باسمه الصغار؟
أيّ “أقدس” هذا الذي تُنتهك تحته أجساد النساء؟
أين الله؟ سؤال لا ينتهي
هل الله غائب، أم أنه انسحب لأننا شوّهنا وجهه؟
هل الدين هو رسالته، أم أن ما نراه اليوم هو مجرد صناعة بشرية، فُصّلت على مقاس القسوة؟
هل نحن نعبد الله، أم نعبد نصوصًا اجتزأناها، وشخصيات صنعناها لنبرر بها موت الآخرين؟
لقد قال نيتشه: “لقد مات الله، ونحن من قتلناه”.
لكن في شنكال، وفي سوريا، الله لم يُقتل، بل استُخدم.
استُعمل اسمه، رُمزت آياته، ووُضع توقيعه على مذابح بشرية لا تشبه السماء بشيء.
في محكمة العقل، يقف الله صامتًا أمام ضحايا شنكال.
وفي وجوه الأمهات السوريات اللواتي يفتشن في الركام، لا تسكن الشكوى فقط، بل السؤال:
“أين كنتَ؟”
وما من إجابة.
لأن السماء، في هذه اللحظة، كانت بلا صوت.
والأرض كانت وحدها تنزف.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
26/3/2025م