عزالدين ملا
منذ سقوط نظام الأسد واستلام هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع زمام الأمور، دخلت سوريا في مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والتغيرات السياسية. هذا التحوّل أحدث صدمة عميقة على كافة الأصعدة، حيث أن السوريين، الذين ظلوا لعقود طويلة تحت نير هذا النظام الاستبدادي، لم يكونوا مستعدين بعد لاستيعاب نهاية حقبة استمرّت لأكثر من خمسة عقود. وترافق مع هذا الحدث مشاعر مختلطة من القلق والأمل، إذ أنه من جهة، كان الخوف يهيمن على العديد من السوريين حول ما قد يخبئه المستقبل في ظل غياب النظام الذي كان يوهمهم بأن سوريا بدون آل الأسد ستكون جحيما لا يُطاق، بينما من جهة أخرى، لا يمكن إنكار الفرحة التي اجتاحت قلوب السوريين بعد التخلص من هذا النظام الاستبدادي الذي جثم على صدورهم لسنوات طويلة.
إن مزيج المشاعر الذي عاشه الشعب السوري عقب سقوط النظام يُظهر حجم الصدمة النفسية التي مرَّ بها. فمن جهة كان السوريون قد اعتادوا على واقعٍ مرير دام لعقود من الزمن، حيث تحكم عائلة الأسد البلاد بقبضة من حديد، مدعومةً بجهاز أمني ضخم يراقب كل حركة أو كلمة. هذا النظام كان يعمق الانقسامات الطائفية ويعتمد على سياسة القمع والتخويف لمواجهة أي محاولة للمعارضة. كانت البلاد تحت هيمنة القيم الاستبدادية التي حوَّلت الشعب إلى مجرد أدوات لسلطة غير شرعية. ومن جهة أخرى يبرز الخوف الكبير من ماذا بعد الأسد؟ حيث أن الشعب السوري كان يعيش في حالة من الغموض حول المستقبل السياسي للبلاد. في ظل هذا الفزع لم يكن السوريون قادرين على تصور الحياة بدون الأسد، خاصة مع الهالة التي صنعها النظام حول نفسه، والتي كانت توحي بأن سوريا ستغرق في الفوضى والدمار في حال غيابه. كانت الشعارات التي رددها النظام طيلة السنوات الماضية تعزز هذا الشعور بالخوف، محذّرة من أن غياب العائلة الحاكمة سيؤدي إلى انفلات الأوضاع الأمنية واندلاع حرب أهلية. ولكن مع مرور الوقت، بدأ السوريون في إدراك حقيقة واحدة أنّ هذا النظام كان السبب الرئيسي في تعميق معاناتهم، وأنّ نهاية هذه الحقبة تعني بداية مرحلة جديدة من الممكن أن تكون أفضل حتى وإن كانت مفعمة بالمخاطر.
مع تشكيل حكومة جديدة في دمشق والحديث عن التحركات المحلية والإقليمية والدولية المتزايدة، بدأ السوريون يتساءلون عن شكل الحكومة القادمة وكيف ستكون سياساتها؟ في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية المستمرّة، يبرز السؤال الأهم، هل ستكون الحكومة الجديدة مجرد نسخة معدلة من النظام السابق مع بعض الرتوش التجميلية على الصورة الخارجية؟ أم سيكون هناك قفزة نحو نظام أكثر ديمقراطية؟ وهل يمكن أن تتحقق فعلاً حكومة فيدرالية لامركزية تضم جميع أطياف المجتمع السوري؟ على الرغم من أن النظام السابق كانت سياساته قائمة على المركزية المفرطة والاحتكار الكامل للسلطة، إلا أن تغيرات ما بعد سقوط الأسد تشير إلى ضرورة إعادة هيكلة النظام بشكل يشمل جميع الأطياف. سوريا التي كانت دوما أرضا متنوعة عرقيا وطائفيا، بحاجة إلى نظام سياسي يعكس هذا التنوع ويحترم حقوق جميع المكونات.
قد يبدو أن الحل الأكثر قبولا داخليا وإقليميا ودوليا هو إقامة نظام فيدرالي لامركزي يسمح لكل منطقة من مناطق سوريا بتقرير مصيرها بشكل أكبر، على أن يبقى هناك تنسيق وتعاون بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية لضمان توازن القوى. هذا النوع من الحكم يمكن أن يساهم في بناء دولة القانون التي تحفظ حقوق جميع أطياف المجتمع السوري، بدءا من الكورد والعرب وصولا إلى الدروز والآشوريين والسريان والعلويين. هذا النظام يمكن أن يكون خطوة نحو تسوية شاملة للأزمة السورية، بحيث يُمكّن الجميع من التعايش في ظل دولة مدنية تضمن العدالة والمساواة.
أمّا إقليميا، فمنذ سقوط النظام السوري شهدت المنطقة تغييرات هامة على الصعيدين الإقليمي والدولي. الدول المجاورة لسوريا، التي كانت تعاني من تهديدات أمنية كبيرة نتيجة الدعم الذي كان يقدمه نظام الأسد للفصائل الإرهابية وتدخلاته في الشؤون الداخلية لدول الجوار، تنفست الصعداء بعد سقوط هذا النظام. فقد كان الأسد يشكل تهديدا مستمرا لاستقرار هذه الدول من خلال دعمه الجماعات المسلحة وتهريب المخدرات وأعضاء البشر. كما كانت علاقات نظام الأسد مع إيران تُفاقم من تعقيد الأوضاع الإقليمية.
لكن مع زوال النظام، باتت دول الجوار تأمل في استعادة استقرارها، وتحقيق الأمن على حدودها مع سوريا. الأردن ولبنان، على سبيل المثال، كانتا تشعران بتهديدات مباشرة من قبل نظام الأسد، وتأثّرا بشكل كبير من الأزمة السورية نتيجة تدفق اللاجئين والمشاكل الأمنية على حدودهما.
وعلى الصعيد الدولي، فإن القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، بدأت تُعيد تقييم سياساتها تجاه سوريا. هناك حاجة مُلحّة لتأسيس حكومة توافقية قادرة على تحقيق الاستقرار الداخلي واستعادة الأمن، مما سيؤثر بشكل مباشر على العلاقة مع هذه القوى التي لا تزال تراقب تطورات الأحداث في البلاد.
وعليه، في الوقت الذي ينتظر فيه السوريون متى ستتضح معالم النظام القادم، يبقى لديهم الأمل في أن تكون سوريا المستقبل الأم التي تحتضن الجميع دون تمييز، ولا تفرق بين أبناء شعبها على أساس العرق أو الطائفة أو المذهب. السوريون يأملون في أن يكون هذا التحول بداية لبناء دولة مدنية قائمة على العدالة والمساواة، وأن يتحقق التعايش السلمي بين جميع مكونات المجتمع السوري.
الشعب السوري، الذي عانى من ويلات الحرب والقمع والتشرد، يطمح في أن يكون المستقبل أكثر إشراقا، وأن تعود سوريا كما كانت قبل أن يتولى الأسد وعائلته السلطة، أي الجمهورية السورية، دولة ذات سيادة وكرامة، تحتضن جميع مواطنيها دون استثناء. مع سقوط هذا النظام المجرم، يمكن أن يكون هناك فرصة حقيقية لبناء وطن جديد، يعكس تاريخ سوريا العريق وتنوعها الثقافي والحضاري، بعيدا عن الاستبداد والطائفية.
لذا، يبقى الأمل هو ما يوجه الشعب السوري نحو غد أفضل، وسوريا القادمة قد تكون بالفعل أكثر وحدة وتعايشا بين جميع أبنائها، إذا ما توفرت الإرادة السياسية المحلية والإقليمية والدولية لتحقيق هذا الهدف.