سوريا: مواقف القوى الإقليمية والدولية بين التقاطع والتضارب

عبدالجبار حبيب

 

منذ أن اشتعلت نيران الحرب في سوريا، تهاوت جدران الاستقرار، واندلعت صراعات أيديولوجية وسياسية جعلت البلاد ساحةً مفتوحةً لمشاريع دوليةٍ وإقليميةٍ متضاربةٍ. وفي خضمِّ هذا المشهدِ المعقدِ، تُثار تساؤلاتٌ مصيريةٌ حول وحدةِ الأراضي السوريةِ وإمكانيةِ فرضِ نموذجِ حكمٍ جديدٍ يُعيد ترتيب ملامح الدولةِ. فهل تقف سوريا اليومَ على أعتابِ التقسيمِ؟ أم أنَّ الإرادةَ الدوليةَ والإقليميةَ ما زالت تسعى للحفاظِ على كيانِها الموحَّدِ؟

 

بين التقسيم والوحدة: صراع المصالح ومستقبل الحكم

 

رغم أنَّ الحديثَ عن تقسيمِ سوريا ليس جديداً، إلا أنَّ المشهدَ السياسيَّ يشير إلى أنَّ معظمَ القوى الفاعلةِ دولياً وإقليمياً لا تدعم هذا السيناريو، وإنْ كانت تسعى لضمانِ نفوذِها داخلَ البلادِ عبر ترتيباتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ طويلةِ الأمدِ.

 

تتمسك روسيا بوحدةِ سوريا لأسبابٍ استراتيجيةٍ، حيث ترى في استمرارِ الدولةِ الموحَّدةِ ضماناً لمصالحِها الجيوسياسيةِ، خصوصاً في ظلِّ نفوذِها العسكريِّ في الساحلِ السوريِّ وقواعدِها الجويةِ في اللاذقيةِ وحميميم. وفي هذا السياقِ، صرَّح وزيرُ الخارجيةِ الروسي سيرغي لافروف قائلاً: “أيُّ محاولةٍ لتقسيمِ سوريا ستؤدي إلى تصعيدٍ إضافيٍّ للنزاعِ، ونحنُ ندعمُ وحدةَ أراضيها بالكاملِ.” فرغم تأكيدِها الرسميِّ على وحدةِ الأراضي السوريةِ، إلا أنَّ أولويتَها الحقيقيةَ ليست وحدةَ الدولةِ بقدرِ ما هي الحفاظُ على نفوذِها العسكريِّ والاستراتيجيِّ، خصوصاً في الساحلِ السوريِّ، حيث تتمركزُ قواعدُها في اللاذقيةِ وحميميم. ومن هذا المنطلقِ، فإنَّ موسكو قد لا تكون معارضةً تماماً لأيِّ ترتيباتٍ تضمنُ استمرارَ سيطرتِها هناك، حتى لو كان ذلك يعني إعادةَ تشكيلِ الخارطةِ السوريةِ بطريقةٍ تخدمُ مصالحَها.

 

بالمقابل، تواصلُ الولاياتُ المتحدةُ دعمَ مناطقِ شمالِ شرقِ سوريا، حيث تنسجُ تحالفاتٍ مع القوى المحليةِ، لكنها لم تطرح بعدُ بديلاً واضحاً لنموذجِ الحكمِ المستقبليِّ. وقد عبَّر وزيرُ الخارجيةِ الأمريكيُّ السابق، مايك بومبيو، عن ذلك بقوله: “يجب أن يكونَ الحلُّ في سوريا نابعاً من إرادةِ السوريينَ أنفسِهم، وليس مفروضاً من الخارجِ.”

 

أما تركيا، فتحركاتُها العسكريةُ في الشمالِ السوريِّ تعكسُ رغبتَها في تعزيزِ وجودِها هناك، وسطَ هاجسٍ أمنيٍّ متكررٍ لدى قيادتِها من قيامِ كيانٍ كرديٍّ مستقلٍّ قد يشكلُ تهديداً لحدودِها. فكلما تطورت الأوضاعُ في شمالِ سوريا، يخرجُ الرئيسُ التركيُّ رجب طيب أردوغان ليؤكد قائلاً: “لن نسمحَ بإنشاءِ كيانٍ كرديٍّ على حدودِ تركيا، وسنواصلُ عملياتِنا العسكريةَ لحمايةِ أمنِنا القوميِّ.”

 

إسرائيل: النفوذ الحاسم في المشهد السوري

في ظلِّ تعقُّدِ المشهدِ السوريِّ، لا يمكنُ إغفالُ دورِ إسرائيلَ، التي تراقبُ عن كثبٍ التطوراتِ داخلَ سوريا، وتحرصُ على توجيهِ ضرباتٍ جويةٍ دوريةٍ تستهدفُ مواقعَ تعتبرُها تهديداً لأمنِها. الضرباتُ الأخيرةُ التي استهدفتْ قاعدةً تركيةً في الأراضي السوريةِ لم تكنْ مجردَ هجومٍ عابرٍ، بل حملتْ رسالةَ إنذارٍ إلى أنقرةَ مفادُها أنَّ إسرائيلَ لا تريدُ قواعدَ عسكريةً تركيةً قريبةً من حدودِها، خاصةً بعد ازديادِ اهتمامِ تركيا بالمشهدِ السوريِّ ورغبتِها في لعبِ دورِ الوصيةِ على أيِّ حكومةٍ جديدةٍ قد تتشكلُ في دمشق. إسرائيلُ لا تريدُ جماعاتٍ راديكاليةً على حدودِها، وستعاقبُ كلَّ من يحاولُ مستقبلاً التفكيرَ في ذلك.

 

إيران: رهانٌ على الفوضى واستراتيجيةٌ للنفوذ

وفي الوقتِ الذي يبدو فيه أنَّ القوى الدوليةَ تتجهُ إلى ترتيباتٍ جديدةٍ لمستقبلِ سوريا، فإنَّ إيرانَ تدركُ أنَّها قد لا تكونُ جزءاً من الحلِّ النهائيِّ، لذلك تحاولُ فرضَ معادلاتٍ جديدةٍ عبر وكلائِها وفلولِ النظامِ السابقِ، بهدفِ إبقاءِ سوريا ساحةَ صراعٍ لا تهدأ، ما يمنحُها قدرةً على المناورةِ وإزعاجِ خصومِها الإقليميينَ والدوليينَ. لم يخفِ القادةُ الإيرانيونَ هذا التوجهَ في تصريحاتِهم، ففي إحدى المناسباتِ قالَ أحدُ قادةِ الحرسِ الثوريِّ: “سوريا لن تكونَ مستقرةً إلا إذا ضَمِنَ محورُ المقاومةِ موقعَه فيها.”

 

سيناريوهات الحكم: بين الفيدرالية والمركزية

مع تعقُّدِ المشهدِ السوريِّ، يبدو أنَّ الحلولَ التقليديةَ قد لا تكونُ كافيةً لإعادةِ بناءِ الدولةِ. فقد أصبح من الواضحِ أنَّ النظامَ المركزيَّ الذي حكمَ سوريا لعقودٍ لم يعدْ قادراً على استيعابِ التغيراتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ التي أفرزتْها الحربُ. من هنا، تبرزُ الفيدراليةُ كنموذجٍ محتملٍ، حيث يمكنُ إعادةُ توزيعِ السلطةِ بشكلٍ أكثرَ عدالةً بين مختلفِ المكوناتِ، بما يضمنُ مشاركةَ الجميعِ في صنعِ القرارِ ويقللُ من احتمالاتِ الانفجارِ المستقبليِّ.

في هذا السياقِ، يرى الباحثُ في معهدِ واشنطن، أندرو تابلر، أنَّ “الفيدراليةَ قد تكونُ الحلَّ الأكثرَ واقعيةً لسوريا، لكنها تتطلبُ توافقاً دولياً وإجماعاً محلياً لضمانِ نجاحِها دون أن تؤدي إلى تفتيتِ الدولةِ.”

 

رؤية مستقبلية: سوريا بين الحلم والواقع

ما زال مستقبلُ سوريا مفتوحاً على احتمالاتٍ متعددةٍ، بينَ مسارٍ يحافظُ على وحدةِ الدولةِ عبرَ إصلاحاتٍ سياسيةٍ جذريةٍ، ومسارٍ آخرَ قد يقودُ إلى مزيدٍ من التشظي بسببِ تضاربِ المصالحِ الإقليميةِ والدوليةِ.

 

في هذا الإطارِ، حذرَ الأمينُ العامُّ للأممِ المتحدةِ، أنطونيو غوتيريش، قائلاً: “يجبُ على المجتمعِ الدوليِّ العملُ معاً لمنعِ تفككِ سوريا وضمانِ انتقالٍ سياسيٍّ عادلٍ ومستدامٍ.”

 

لكن في نهايةِ المطافِ، يبقى القرارُ بيدِ السوريينَ أنفسِهم. فإمَّا أن يكونوا أداةً في مخططاتِ الآخرينَ، أو أن يفرضوا إرادتَهم الوطنيةَ عبرَ توافقٍ سياسيٍّ يجمعُ شتاتَهم تحتَ رايةِ دولةٍ عادلةٍ، تتسعُ للجميعِ دونَ استثناءٍ. بين هذه الخياراتِ، يبقى الأملُ معلقاً على وعيِ الشعبِ بتعدديتِه القوميةِ والدينيةِ والمذهبيةِ، وقدرتِه على تجاوزِ الجراحِ القديمةِ، بحثاً عن مستقبلٍ أكثرَ إشراقاً واستقراراً.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ألبيرتو نيغري النقل عن الفرنسية: إبراهيم محمود ” تاريخ نشر المقال يرجع إلى ست سنوات، لكن محتواه يظهِر إلى أي مدى يعاصرنا، ككرد، أي ما أشبه اليوم بالأمس، إذا كان المعنيون الكرد ” الكرد ” لديهم حس بالزمن، ووعي بمستجداته، ليحسنوا التحرك بين أمسهم وغدهم، والنظر في صورتهم في حاضرهم ” المترجم   يتغير العالم من وقت لآخر: في…

شادي حاجي مبارك نجاح كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي في روژآڤاي كردستان في قامشلو ٢٦ نيسان ٢٠٢٥ الذي جاء نتيجة اتفاقية بين المجلس الوطني الكردي السوري (ENKS) واتحاد الأحزاب الوطنية (PYNK) بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي بعد مفاوضات طويلة ومضنية على مدى سنوات بمبادرات وضغوط كردستانية واقليمية ودولية وشعبية كثيرة بتصديق وإقرار الحركة الكردية في سوريا بمعظم أحزابها ومنظماتها الثقافية…

د. محمود عباس   إلى كافة الإخوة والأخوات، من قادة الحراك الكوردي والكوردستاني، وأعضاء الكونفرانس الوطني الكوردي، والضيوف الكرام، وإلى كل من ساهم وشارك ودعم في إنجاح هذا الحدث الكوردستاني الكبير. أتوجه إليكم جميعًا بأسمى آيات الشكر والتقدير، معبّرًا عن فخري واعتزازي بما حققتموه عبر انعقاد الكونفرانس الوطني الكوردي في مدينة قامشلو بتاريخ 26 نيسان 2025. لقد كان هذا الكونفرانس…

أثمرت إرادة الشعب الكردي في سوريا، الذي لطالما تطلّع إلى وحدة الصف والموقف الكردي، عن عقد الكونفرانس الذي أقرّ وثيقة الرؤية الكردية المشتركة لحل القضية الكردية في سوريا، بإجماع الأحزاب الكردية، ومنظمات المجتمع المدني، والفعاليات المجتمعية المستقلة من مختلف المناطق الكردية وعموم سوريا. ويجدر بالذكر أن هذا الإنجاز تحقق بمبادرة من فخامة الرئيس مسعود بارزاني، وبالتعاون مع الأخ الجنرال مظلوم…