عزالدين ملا
تعيش سوريا اليوم مرحلة عصيبة مليئة بالتحديات والأوجاع، وأيضا مرحلة مفصلية في تاريخها بعد أكثر من خمسة عقود من حكم نظام البعث الاستبدادي تحت قيادة الدكتاتور حافظ الأسد ومن ثم ابنه بشار الأسد الذي لم يكن أقلّ إجراماً من والده بل كان أشد دموية وإرهاباً، رغم سقوط نظام الأسد مازال السوريين لم يستفيقوا بعد من كابوسٍ مرير عاشوه طيلة تلك السنوات. فما بين انتهاك الحقوق والحريات والفتن الطائفية والإقصاء العرقي، وما شهدته البلاد من نزاعات دموية أسفرت عن مئات الآلاف من الضحايا، كابوسه مازال يؤثر على مستقبل سوريا لِما خلّفه من تبعات خطيرة. ورغم انقضاء جزء من هذا الكابوس بسقوط النظام المدوّي، ستبقى آثار الجرائم التي ارتكبها النظام حاضرة في الذاكرة الجمعية للشعب السوري، وزادها ما نشهده وشهده العالم كله عِبرة شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي من معاناة المعتقلين السياسيين في سجون النظام وعلى رأسها سجن صيدنايا، هذا السجن يكفي لأن يُثبت لدول العالم وللإنسانية جمعاء الرعب الذي كان يعيشه الشعب السوري في تلك المرحلة.
منذ أن تولّى حزب البعث سنة 1963 وبعدها عائلة الأسد الحكم في سوريا سنة 1970، بدأ النظام البعثي الأسدي بتأسيس آلة قمعية رهيبة استهدفت كافة فئات المجتمع السوري، بما في ذلك الأقليات والطوائف المختلفة من عرب وكورد ودروز ومسيحيين وحتى أبناء جلدته العلويين. لكن الكورد كانوا الفئة الأكثر تضرراً من سياسات البعث، التي استهدفتهم بشكل خاص عبر عدة طرق أبرزها الحزام العربي الذي تم بموجبه طرد عشرات الآلاف من العائلات الكوردية من أراضيهم وإسكان أُناس آخرين جلبهم من الرقة واسكنهم فيها. هذه السياسات لم تقتصر على الإخلاء القسري فقط، بل امتدت إلى حرمانهم من حق المواطنة في بلدهم من خلال قرار الإحصاء الذي جرد عشرات الآلاف من الكورد من جنسيتهم السورية ليصبحوا غرباء في أرضهم، وليعيشوا في وضعية اللاجئين داخل وطنهم، وهو ما جعلهم محرومين من حق التعليم والتنقل والسفر وحتى من حقوقهم الأساسية بأن يتمتعوا بوطنيتهم السورية.
منذ اللحظة التي فرض فيها النظام البعثي الأسدي سياسة الإقصاء على الكورد، كان الهدف إلغاء هويتهم الثقافية والسياسية، من خلال ممارسة القمع الممنهج ومنع التعلّم بلغتهم الأم. غير أن هذه السياسات لم تقتصر على الكورد وحدهم، فكانت للطائفة السنية نصيب، حيث كانت أحداث حماة سنة 1982 الوجه البشع للنظام بتدمير المدينة وراح ضحيتها آنذاك أكثر من 40 ألف شهيد، فالنظام السوري تحت قيادة عائلة الأسد، لم يميز بين طائفة وأخرى، بل سعى إلى خلق بيئة من الكراهية والعنصرية بين مختلف أطياف المجتمع السوري ومارس أساليب ترهيبية من اعتقال وملاحقة وحرب نفسية وكم الأفواه، فكانت سوريا سجن مرعب ومخيف.
لذا، كان السبب الرئيسي لـ النظام السوري بإتباع سياسة فرق تسد بشكل متقن ليحافظ على بقائه في السلطة. هذه السياسة لم تكن مقتصرة على الإقصاء العرقي والديني والتهميش فحسب، بل شملت أيضاً تأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية بين مختلف المكونات الاجتماعية والعرقية والطائفية في سوريا. وبذلك، خلق النظام حالة من الكراهية بين العرب والكورد، مما سهل له الحكم على مدى أكثر من خمسين عاماً.
إحدى أبرز تجليات هذه السياسة كانت الأحداث التي شهدتها مدينة القامشلي ( قامشلو ) سنة 2004، حيث اندلعت اشتباكات بين جماهير فريقيِّ الفتوة القادم من ديرالزور والجهاد من القامشلي لكرة القدم، وهي الأحداث التي كانت بمثابة شرارة انتفاضة كوردية ضد النظام. تلك الانتفاضة رغم تضحياتها الكبيرة باستشهاد العشرات من شبان الكورد واعتقال الآلاف، لم تستطع تحقيق أهدافها بسبب سياسات النظام التي شجعت على زيادة خطاب الكراهية بين الكورد والعرب، وأدت إلى إضعاف روح التضامن الوطني بين كافة مكونات المجتمع السوري.
أما في عام 2011، حيث اندلعت الثورة السورية التي كانت رداً على كل تلك الممارسات والأساليب الوحشية وغير الإنسانية بحق السوريين الذين ضاقوا ذرعاً، وعلى الرغم من أن الثورة انطلقت للمطالبة بإسقاط النظام من كافة أطياف الشعب السوري، إلا أن الأساليب التي اتبعها النظام في تقسيم المجتمع وخلق بيئة من الشك والخوف بين فئات الشعب، كانت حاسمة في جعل الثورة تواجه مصيرها المأساوي من دمار وخراب وتهجير ونزوح واستمرار الأزمة السورية كل هذه السنين. بدلاً من أن تكون الثورة بداية لوحدة وطنية بين السوريين من كافة الطوائف والقوميات، كانت بداية لنفق مظلم أسفر عن مئات الآلاف من الشهداء والمهجرين، ونزوح الملايين داخل سوريا وخارجها. ولا شك أن سياسة النظام في التحريض على الفتنة والاقتتال الطائفي كانت أحد الأسباب الرئيسية في تأجيج الأزمة في سوريا، حيث تم دفع العديد من الأطراف داخل المجتمع السوري للاصطفاف ضد بعضها البعض، بدلاً من التوحد ضد الطغيان.
على الرغم من كل ما مرت به سوريا من ويلات نتيجة سياسات النظام الوحشية، إلا أن هناك أملاً في بناء سوريا جديدة، فـ على الأطراف والقوى السورية السياسية والمجتمعية وحتى العسكرية السعي إلى تصحيح أخطاء الماضي، والعمل على إعادة اللحمة بين مختلف مكونات الشعب السوري وأطيافه، فإن التحدي الكبير اليوم هو كيف يمكن للمجتمع السوري أن يتجاوز سياسة الكراهية التي زرعها النظام خلال عقود حكمه؟؟، ويعود إلى ثقافة التسامح والعيش المشترك.
لقد أثبتت الثورة السورية بإسقاطهم لنظام الأسد رغم كل المعاناة التي مرّ به الشعب السوري فهو يملك من الإرادة والقوة ما يمكنه من تجاوز المحن وإعادة بناء وطنهم السوري. ورغم الآلام والجراح يبقى السوريين بكل تنوعاتهم العرقية والدينية، قادرين على العمل سوياً لبناء مستقبل مشترك، مستقبل يعتمد على التسامح والقبول بالآخر.
باعتقادي، أن العودة إلى الوحدة الوطنية ليست فقط نعلنها كـ شعار، بل من الواجب جعلها ضرورة ملحة لبناء سوريا المستقبل سوريا لكل السوريين. فعندما نتحدث عن سوريا المتعددة، لا نعني فقط التعدد الثقافي والعرقي، بل نعني سوريا التي تتسع لجميع أبنائها، سوريا التي تعترف بحقوق الكورد والعرب والسنة والشيعة والدروز والمسيحيين والعلويين. السوريين اليوم بحاجة إلى نبذ الطائفية والعنصرية، وإعادة بناء وطنهم السوري على أسس من العدالة والمساواة والتسامح والعيش المشترك.
وعليه، يبقى الأمل في أن تكون سوريا المستقبل هي سوريا تحت مسمى الجمهورية السورية التي تحتضن الجميع، سوريا التي تسامح وتتعافى من جراحاتها، سوريا التي تستعيد مكانتها بين الأمم، وتعود كما كانت يوماً قبلة للاستثمار والبناء، ودرة الديمقراطية والعدالة الإنسانية.