خالد إبراهيم
أبارك لعموم الشعب السوري هذا الإنجاز التاريخي بزوال الأسد ونظامه الذي حكم البلاد بالحديد والنار لعقود. اليوم، تُكتب أولى صفحات الفرح، لكنها لا تكتمل إلا بإطلاق سراح كل المساجين المنفيين والمفقودين في سجون الظلم، وعلى رأسها سجن صيدنايا المرعب، الذي كان رمزًا للقهر والجريمة المنظمة ضد الإنسانية. فرحتنا بزوال الطاغية هي خطوة أولى نحو سوريا الجديدة، لكنها تضع على عاتقنا مسؤولية أكبر، مسؤولية بناء وطن يتسع للجميع، وطن يعوض كل من عانى وعاش تحت وطأة الظلم، وطن يضمن العدالة والمساواة لكل أبنائه دون استثناء.
إذا كان مصيرنا أن نبقى معارضين حتى في سوريا المستقبل، فهذا يعني أن الطريق نحو الحرية الحقيقية والمساواة ما زال طويلًا ومعقدًا. المعارضة ليست مجرد رفضٍ لسلطة حاكمة أو لنظام قائم، بل هي فعلٌ نابع من ضميرٍ يرفض الظلم والاستبداد، ويؤمن بعدالة القضية، ويعمل من أجل وطن يتسع لكل أبنائه دون تمييز.
سوريا التي نطمح إليها ليست سوريا الإسلامية، ولا القومية، ولا الطائفية. إنها سوريا المدنية الديمقراطية، التي تقوم على التعددية واحترام حقوق الجميع بغض النظر عن دينهم، قوميتهم، أو انتمائهم السياسي. إنها سوريا التي تحتضن الكردي كما العربي، والمسلم كما المسيحي، والإيزيدي كما الآشوري، سوريا التي تُصان فيها كرامة الإنسان، بغض النظر عن هويته.
ما يُثير القلق اليوم هو الخطابات التي تعيد إنتاج الاستبداد بثوبٍ جديد. خطاب الجولاني الأخير من الجامع الأموي، حيث نسب “نصره” ليس للشعب السوري أو للثوار، بل للأمة الإسلامية وللمجاهدين، هو إشارة واضحة إلى العودة لفكرٍ راديكالي متشدد. هذا الفكر الذي يقسم المجتمع ويضع مصلحة أيديولوجية ضيقة فوق مصلحة الوطن بأسره. مثل هذه الخطابات تُظهر بجلاء أن بعض القوى التي تدّعي تحرير سوريا تسعى فقط لاستبدال طغيان بآخر، مغلف بشعارات دينية أو قومية. لكنها في جوهرها لا تختلف عن النظام الذي ثار الشعب السوري لإسقاطه.
الحرية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إذا ما ظلت تُستخدم كوسيلة لفرض أيديولوجيا معينة على حساب التنوع الذي لطالما كان ميزة سوريا التاريخية. في سوريا المستقبل، يجب أن نضمن أن لا تُستغل تضحيات السوريين لتكريس خطابٍ إقصائي أو لتبرير مظالم جديدة. يجب أن يكون النصر للشعب السوري بكل أطيافه، لا لفئة تدّعي الوصاية على الثورة أو تستخدم الدين كأداة سياسية. سوريا الجديدة يجب أن تكون للجميع، لا هوية واحدة تسيطر، ولا فكر واحد يُهيمن. إن النضال ضد الطغيان لم يكن يومًا نضالًا ضد فرد أو نظام فقط، بل هو نضال من أجل قيم ومبادئ: الحرية، المساواة، والعدالة. إذا كان صوتنا سيظل معارضًا، فليكن ذلك ضد أي شكل من أشكال القمع، أكان بيد نظام قديم أم بيد سلطة جديدة تحاول السيطرة باسم الدين أو القومية. سوريا لا تحتاج إلى قادة يرون أنفسهم فوق الشعب، بل إلى مشروع وطني جامع يحترم التعددية، ويُعلي من شأن الديمقراطية الحقيقية. هذا هو الطريق الوحيد لبناء وطن حر ومستقر، وطن يحفظ حقوق الجميع دون إقصاء أو تمييز.
في النهاية، الثورة لم تكن يومًا مجرد صراع على السلطة، بل كانت حلمًا بحياة كريمة لكل سوري. وهذا الحلم لا يمكن تحقيقه إلا عندما تتجاوز سوريا مستقبلها المظلم، وتؤسس نظامًا يحمي الجميع، ولا يكرر أخطاء الماضي تحت عناوين وشعارات جديدة.