سوريا: إجراءات قانونية وقضائية لا تحتمل التأجيل

رياض علي*
نظرا للظروف التاريخية التي تمر بها سوريا في الوقت الحالي، وانتهاء حالة الظلم والاستبداد والقهر التي عاشها السوريون طوال العقود الماضية، وبهدف الحد من الانتهاكات التي ارتكبت باسم القانون وبأقلام بعض المحاكم، وبهدف وضع نهاية لتلك الانتهاكات، يتوجب على الإدارة التي ستتصدر المشهد وبغض النظر عن التسمية، أن تتخذ العديد من الإجراءات المستعجلة، اليوم وليس غداً، خاصة وان حجم المأساة التي يعانيها السوريين وهول ما يرونه من جرائم كانت خافية عليهم، إلى حد ما، إضافة إلى البهجة التي غمرت السوريين نتيجة التخلص من الحقبة الأسدية المظلمة، قد يبعد الضوء عن مسائل قانونية وقضائية حساسة، والتي بدونها لا يمكن ان نتخلص من إرث الماضي المرير، وهي ليست حصرية، لكن نرى أنها يجب ان تحظى بالأولوية في التطبيق حالياً، ويمكن تلخيص ما يتوجب القيام به وبشكل اسعافي بالخطوات التالية:
ـــ إصدار وثيقة دستورية مؤقتة مقتضبة تنهي العمل بالدستور النافذ حالياً، وتتضمن مبادئ أساسية تركز على حقوق الانسان وحرياته التي لا يمكن التهاون بها او التنازل عنها تحت أي ظرف، كالحق في عدم التعرض للتعذيب أو الإهانة أو الاختفاء القسري أو الاعتقال التعسفي، أو الابعاد عن الوطن، والحق في المحاكمة العادلة، وحظر اللجوء إلى الانتقام أو الثأر، وإنما لمن أراد استيفاء حقه فعليه سلوك الطرق القانونية المناسبة، ونبذ العنف وخطاب الكراهية ضد أي مكون أو عرق أو مذهب، ونرى في هذا الصدد أن يتم النص صراحة في هذه الوثيقة الدستورية على احترام مبادئ القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني، ولا سيما تلك الواردة في الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سوريا، واعتبار ما ورد في تلك الاتفاقيات جزء لا يتجزأ من القوانين السورية الداخلية.
 وكذلك ينبغي تضمين هذه الوثيقة ما يفيد بتعليق العمل بالدستور الحالي، لكن مع الإبقاء على مؤسسات الدولة الحالية على وضعها الحالي، عدا الجيش والأفرع الأمنية، لحين الاتفاق على وضع دستور جديد يرسم ملامح مؤسسات وسلطات الدولة السورية الجديدة، وكذلك تعليق عمل المحكمة الدستورية العليا الحالية وكف أيدي قضاتها عن العمل، لأن هذه المحكمة لم تمارس أي من أعمالها طوال العقود الماضية، وكان رئيس الدولة المخلوع هو من يسمي أعضاءها بالكامل.
ـــ التأكيد على ضرورة تطبيق المحاكم السورية العادية للقوانين السورية العامة، ولا سيما تلك الموجودة قبل اندلاع الثورة السورية، بل وقبل استيلاء الأسد الأب على السلطة في سوريا، كالقانون المدني وقانون العقوبات والأحوال الشخصية وقانون البينات (الإثبات)، وقوانين الإجراءات المدنية والجزائية، وتعليق العمل بالقوانين والمراسيم الاستثنائية، كتلك التي تمنح الحصانة من الملاحقة والمساءلة القضائية لعناصر وضباط الجيش والأمن والشرطة، وكذلك تلك التي استخدمت كأداة للتخلص من الخصوم السياسيين وتغييبهم، كمراسيم إحداث المحاكم الاستثنائية المعفاة من التقيد بالأصول والإجراءات القانونية، وفقاً لمراسيم إحداثها، وكذلك بعض مواد قانون العقوبات المتعلقة بالجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي، والتي تضمنت عناوين فضفاضة تحتمل أكثر من تأويل، كوهن نفسية الأمة او النيل من هيبة الدولة وما شابه، وبالتوازي إلغاء تلك التشريعات والمراسيم التي تنطوي على مصادرة ممتلكات السوريين بدون وجه حق، كقانون الاستملاك والقانون رقم 10 لعام 2018، وغيرها من القوانين والمراسيم الكثيرة التي لا يتسع المجال في هذا الحيز الضيق لذكرها جميعاً.
ـــ عطفاً على ما ذكر، من الواجب تشكيل لجنة من خبراء وممارسي القانون والمدافعين عن حقوق الانسان لإجراء دراسة شاملة للقوانين والمراسيم المذكورة آنفاً بهدف تحديد تلك التي يتوجب إلغاءها، وتلك التي تتطلب التعديل، واقتراح تلك التعديلات، بشكل تصبح فيه القوانين السورية متوافقة مع الالتزامات المفروضة على الدولة السورية وفقاً للاتفاقيات ذات الصلة بحقوق الانسان، والتي صادقت وستصادق عليها سوريا.
ـــ إصدار قرار بإلغاء كافة المحاكم واللجان الاستثنائية، كمحكمة الإرهاب، ولجان التقييم وحل النزاعات المتعلقة بالعقارات المحدثة بموجب القانون رقم 10 لعام 2018 وتعديلاته،  وكف يد القضاء العسكري عن النظر في الدعاوى التي يكون فيها أشخاص مدنيون كأطراف خصومة، بغض النظر عن طبيعة التهم الموجهة إليهم، وإحالة تلك الدعاوى إلى القضاء المدني المختص، مع كف أيدي القضاة الذين عملوا في محكمة الإرهاب وكذلك قضاة المحاكم العسكرية عن العمل، كون تلك الأيدي شاركت في تعميق مآسي السوريين، وندب قضاة مدنيين للعمل مؤقتاً في المحاكم العسكرية، لحين إجراء التعديلات اللازمة على تركيبة القضاء العسكري وتحديد اختصاصاته بدقة.
ــ تشكيل لجان قضائية متخصصة للنظر في القضايا الجزائية والمدنية، مهمتها النظر في الجرائم الأشد خطورة والتي ارتكبت على نطاق واسع وممنهج، كالتعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والقتل خارج القضاء والاستيلاء على الممتلكات، وغيرها من الجرائم والانتهاكات المصنفة كجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، وتتلقى هذه اللجان طلبات الضحايا والناجين بخصوص الانتهاكات وتنظر فيها وفقا للقواعد والأصول القانونية المنصوص عليها في القوانين السورية وبما يتوافق مع المعايير الدولية، ويجب توخي الحذر في اختيار القضاة الذين سيتولون المهام في هذه اللجان، حيث من المفترض أن تكون لديهم المعرفة الكافية بقوانين حقوق الانسان والقانون الإنساني الدولي، ويمكن، لهذا الغرض، الاستعانة بأهل الخبرة من المحامين والقضاة المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة، وممن لم يُعرف عنهم التشبيح والتطبيل للنظام البائد.
العمل على تطبيق ما ذكر لا يعني تحقيق جميع آمال السوريين، ولا يعني أننا سنصل بسوريا إلى دولة المؤسسات والقانون كما نطمح، فثمة الكثير من المسائل العالقة التي تتطلب الحل وعلى مستويات عدة، سياسية واقتصادية وخدمية وإدارية وأمنية واجتماعية، والتي سنترك الحديث فيها لأهل الاختصاص والخبرة، إلا أن الخطوات المذكورة ستساعد وبشكل اسعافي في الحد من الوقوع في حالة التخبط القانوني، والتي قد تعيد البلاد إلى دوامة العنف التي لم تنته بالشكل الذي نحلم به، فعدم وجود قانون تستند عليه المؤسسات الوليدة وتلتزم به، والإبقاء على الأجسام القضائية والقوانين الاستثنائية التي حاولت شرعنة جرائم السلطة الماضية، سيؤجج روح الانتقام لدى من عانى منها، وهم كثر، طوال العقود الماضية.
*قاضي كردي سوري

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ألبيرتو نيغري النقل عن الفرنسية: إبراهيم محمود ” تاريخ نشر المقال يرجع إلى ست سنوات، لكن محتواه يظهِر إلى أي مدى يعاصرنا، ككرد، أي ما أشبه اليوم بالأمس، إذا كان المعنيون الكرد ” الكرد ” لديهم حس بالزمن، ووعي بمستجداته، ليحسنوا التحرك بين أمسهم وغدهم، والنظر في صورتهم في حاضرهم ” المترجم   يتغير العالم من وقت لآخر: في…

شادي حاجي مبارك نجاح كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي في روژآڤاي كردستان في قامشلو ٢٦ نيسان ٢٠٢٥ الذي جاء نتيجة اتفاقية بين المجلس الوطني الكردي السوري (ENKS) واتحاد الأحزاب الوطنية (PYNK) بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي بعد مفاوضات طويلة ومضنية على مدى سنوات بمبادرات وضغوط كردستانية واقليمية ودولية وشعبية كثيرة بتصديق وإقرار الحركة الكردية في سوريا بمعظم أحزابها ومنظماتها الثقافية…

د. محمود عباس   إلى كافة الإخوة والأخوات، من قادة الحراك الكوردي والكوردستاني، وأعضاء الكونفرانس الوطني الكوردي، والضيوف الكرام، وإلى كل من ساهم وشارك ودعم في إنجاح هذا الحدث الكوردستاني الكبير. أتوجه إليكم جميعًا بأسمى آيات الشكر والتقدير، معبّرًا عن فخري واعتزازي بما حققتموه عبر انعقاد الكونفرانس الوطني الكوردي في مدينة قامشلو بتاريخ 26 نيسان 2025. لقد كان هذا الكونفرانس…

أثمرت إرادة الشعب الكردي في سوريا، الذي لطالما تطلّع إلى وحدة الصف والموقف الكردي، عن عقد الكونفرانس الذي أقرّ وثيقة الرؤية الكردية المشتركة لحل القضية الكردية في سوريا، بإجماع الأحزاب الكردية، ومنظمات المجتمع المدني، والفعاليات المجتمعية المستقلة من مختلف المناطق الكردية وعموم سوريا. ويجدر بالذكر أن هذا الإنجاز تحقق بمبادرة من فخامة الرئيس مسعود بارزاني، وبالتعاون مع الأخ الجنرال مظلوم…