دمشق الجديدة والمعادلة الصعبة

إبراهيم اليوسف
 
تعود سوريا اليوم إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية كأرض مستباحة وميدان لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والإقليمية. هذه الصراعات لم تقتصر على الخارج فقط، بل امتدت داخليًا حيث تتشابك المصالح والأجندات للفصائل العسكرية التي أسستها أطراف مختلفة، وأخرى تعمل كأذرع لدول مثل تركيا، التي أسست مجموعات كان هدفها الأساسي مواجهة وجود الشعب الكردي، خارج حدود تركيا، خصوصًا في المناطق التي تعرضت للاحتلال والتغيير الديمغرافي، كما في عفرين.
صراعات القوة وأثرها على سوريا المستقبل
الصراعات بين القوى الكبرى والإقليمية تسعى للاستئثار بالنفوذ، ما يهدد أية إمكانية لاستقرار سوريا. إلا أن نجاح سوريا المستقبل مرهون، أولاً وأخيرًا، بإلغاء دور تركيا وتدخلاتها السافرة في شؤون الداخل السوري، كحالة احتلال مستجدة. إضافة إلى ذلك، فإن صراعات فكرية وأيديولوجية تبرز، على نحو واضح، حول هوية سوريا الجديدة:
هل ستكون دولة مدنية، نصف إسلاموية،  أم علمانية صرفة، أم إمارة إسلامية؟ بعض الأطراف، مثل من يروج لفكرة” دولة سوريا” كترجمة  لمصطلح “دولة الشام”إذ يدفعون بسوريا نحو طابع ديني مغلق، أو طابع قومي مغلق ك” الجمهورية العربية السورية” وليس”الجمهورية السورية”، بينما تبدو أطراف أخرى، كالسيد أحمد الشرع، أكثر تماسكًا، حتى الآن، في استقراء هذه المشاريع، قبل إظهار إقرارها الدستوري الذي سيكون ترجمة- لاشك- لرؤية السلطة الجديدة، قبلنا أم لم نقبل، إذ إنه لا يمكن نسيان وتناسي وإغفال دور القوى التي جاءت به وبهذا العهد الجديد. في الوقت ذاته، فإن الحديث عن وجود جيوش الهيئة التي تشمل 35 ألف عنصر تركي مموهين بلباس سوري- إن صح القول- يعقد المشهد ويدفع بالسيادة الوطنية إلى مزيد من التآكل.
تركيا ودورها في دمشق
إن تركيا، التي حاولت فرض هيمنتها على الملف السوري منذ بداية الأزمة، تسعى اليوم إلى استغلال الظروف الجديدة لترسيخ وجودها.  فقد جاء ظهور وزير خارجيتها” هاكان فيدان” في سفح قاسيون ، ضمن وفود أوائل الدول التي هرولت إلى سوريا بغرض نيل حصتها والهيمنة عليها، لا مؤازرتها لتجاوز المحنة، وذلك إلى جانب السيد الشرع، يحمل دلالات سياسية واضحة، تشير إلى محاولة فرض صيغة من الاتفاقات تجعل سوريا إما تابعًا ضمن إطار “دولة الخلافة” التي يروج لها أردوغان، أو ساحة نفوذ سياسي وأمني دائم لتركيا. هذه المحاولات تهدف أيضًا إلى تعزيز السيطرة على ثاني قومية في سوريا وهي أبناء الشعب الكردي في سوريا، في سياق سياسة ترهيب مشابهة لما يعانيه الكرد في تركيا.
كما أنه علينا ألا ننسى دور قطر- مثلاً- التي دست أنفها في الملف السوري، منذ البداية وكانت وراء جزء كبير مما ألحق بسوريا: دماراً وقتلاً واحتلالاً، من أجل التأسيس لسوريا هزيلة تابعة، بعكس أحلام السوريين الذين ثاروا على النظام البائد، وذاقوا صنوف العذاب عبر نصف قرن ونيف، من أجل سوريا قوية مزدهرة لكل السوريين، من دون البعث والأسد!
وهنا، تماماً، فإن علينا عدم نسيان أن سوريا- العهد الجديد- استلمتها الإدارة الجديدة: جريحة، منهكة، محتلة، ضعيفة، وثمة قوى كإيران ستحاول خلق البلبلة والزعزعة، من خلال تنشيط خلايا الفساد وأدوات النظام المندحر، واللعب على النعرات الطائفية، مثلما تفعل تركيا منذ بداية الثورة السورية التي كانت طرفاً رئيساً في إجهاض نسختها الصحيحة وحرف بوصلتها، كما أن سوريا الجديدة قد استنزفت اقتصادياً، عبر نهب الثروات من قبل النظام الأسدي الساقط، بالإضافة إلى آثار الحرب، وتدمير البنية التحتية الذي تم من قبل: النظام-  حرب داعش والفصائل المشابهة- تركيا إلخ.. وهذا مايجعلها أحوج إلى الدعم المالي العربي الخليجي الدولي غيرالمشروط، إلا ما يدعم قوتها وصون مكوناتها جميعاً.
الملف الكردي وخصوصيته
الكرد في سوريا يحملون ملفًا معقدًا ذا أبعاد وطنية وإقليمية. بعد أن لعبت قوات سوريا الديمقراطية دورًا محوريًا في دحر داعش،  فقد وجدت نفسها في مواجهة تحديات جديدة، أبرزها الضغوط التركية التي تسعى إلى تحجيم دور الكرد ومحاصرتهم. بدهي أن الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها الإدارة الذاتية، ومنها التوسع في مناطق خارج إطار الدفاع عن الكرد، كانت فرصة لاستهدافها داخليًا وخارجيًا. ورغم ذلك، فإنه لا يمكن تجاهل دور قسد في حماية المناطق الكردية، والتضحيات التي قدمها الكرد في مواجهة الإرهاب.
من جهة أخرى، تتصاعد الدعوات لقطع علاقة قوات سوريا الديمقراطية بحزب العمال الكردستاني، مع أنها جزء من المطالبات الدولية لإيجاد حل سياسي. في المقابل، ثمة تناقض واضح في الخطاب؛ فمن جهة يُطالب بفصل قسد عن العمال الكردستاني، ومن جهة أخرى تتم المطالبة بتكريم العناصر الأجنبية التي ساهمت في تحرير سوريا. هذا التناقض يعكس ازدواجية المعايير التي تواجهها القضية الكردية.
في رأيي الشخصي، أنه فيما كانت قيادة قسد و حزب” ب ي د” ينطلقان من مصلحة كرد سوريا والحرص عليها: الآن في لحظة التحول المفصلية، ومستقبلاً، فإن عليهما ترك أمر كرد سوريا لهم، على الصعيد السياسي، وهو حل لا يجرؤ أحد طرحه، انطلاقاً من مفهوم اعتبار قسد” قوة على الأرض” الذي انطلق” ب ك ك” منه، وأحدث كل هذا الشرخ بين الكرد ذواتهم من جهة، وبينهم ومحيطهم السوري كما فعل ذلك: النظام وتركيا، ولابد من انتظار مرحلة تقصر أو تطول لإعادة “جمهور” حالتهما إلى محيطه المحلي، ضمن إطار وحدة الصف الكردي، من دون أية سطوة خارجية، من قبل أية جهة كردستانية أو غير كردستانية.
الموقف من إسرائيل والكرد
من اللافت أيضًا أن هناك أطرافًا تتقبل أي تحالف، حتى مع نظام تركيا المحتل والمعادي للكرد، لكنها ترفض أية فكرة عن علاقة محتملة بين الكرد وإسرائيل. كرد سوريا لا علاقة لهم بإسرائيل حتى الآن، لكن لماذا لا تُستوى الدعوة على الطرفين؟ الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل يجب أن تقابل بدعوة مشابهة لمقاطعة تركيا، التي تسعى لإبادة الكرد وتدمير هويتهم القومية، إلا أننا رغم انكشاف الدور التدميري من قبل تركيا لسوريا كاملة، بما في  ذلك تصفيتها للمعارضة التي دخلت المشهد من خلالها، وذلك عبر جعلها: تابعة- ضعيفة- مباركة لاحتلالها لأراض سورية- التخلي عنها أمام أية مصلحة، بما في ذلك في مشروع مصالحتها مع النظام الذي رفض هذا الأخير شروطها، وكان ذلك القشة التي قصمت ظهره، وأدت إلى إعلان سقوطه.
تحديات الحل الداخلي
الواقع السوري لن يشهد استقرارًا طالما استمرت تركيا في فرض وصايتها الأمنية والسياسية، فهي ترى في الكرد تهديدًا وجوديًا لمشروعها الداخلي والإقليمي. ورغم أن من حق تركيا الحفاظ على أمنها، إلا أن استخدامها لهذه الذريعة للتدخل في شؤون سوريا ولتأديب كرد سوريا كرسالة لكرد تركيا ومشروع: الكرد وكردستان، هو أمر مرفوض دوليًا وإنسانيًا.
الحل الأمثل للوضع الكردي في سوريا يكمن في إيجاد تسوية دستورية تضمن حقوق الكرد كشركاء في بناء سوريا الجديدة. هذا يتطلب شجاعة سياسية من الأطراف كافة لإعادة صياغة مفهوم الدولة السورية بحيث تكون دولة متعددة القوميات تضمن الحقوق المتساوية للجميع.
الدور الأمريكي والمخاطر
الدور الأمريكي في سوريا لا يزال مثيرًا للجدل، خصوصًا مع التغيرات في الإدارات الأمريكية.  فقد اتسمت السياسة الأمريكية خلال عهد ترامب، تجاه الكرد بالتردد وعدم الثقة. والكرد تلقوا من خلال ذلك درسًا قاسيًا، مفاده أن الحلول المستوردة من الخارج غالبًا ما تكون قصيرة الأجل، وأن الاعتماد على الداخل، رغم صعوبته، هو الخيار الأكثر استدامة.
أجل. دمشق الجديدة تواجه معادلة صعبة، بين التدخلات الخارجية، والأزمات الداخلية، ومحاولات بعض القوى فرض أجنداتها على حساب الشعب السوري ومكوناته. نجاح سوريا المستقبل يعتمد على تجاوز هذه التحديات، وبناء دولة جديدة تحترم حقوق مكوناتها جميعاً. وأي مشروع لبناء سوريا المستقبل لن ينجح دون معالجة القضية الكردية وضمان حقوق جميع المكونات السورية، بعيدًا عن الوصايات الخارجية والتدخلات الإقليمية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

روني آل خليل   إن الواقع السوري المعقد الذي أفرزته سنوات الحرب والصراعات الداخلية أظهر بشكل جلي أن هناك إشكاليات بنيوية عميقة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد. سوريا ليست مجرد دولة ذات حدود جغرافية مرسومة؛ بل هي نسيج متشابك من الهويات القومية والدينية والطائفية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل للأسف إلى وقود للصراع بسبب…

خالد حسو الواقع الجميل الذي نفتخر به جميعًا هو أن سوريا تشكّلت وتطوّرت عبر تاريخها بأيدٍ مشتركة ومساهمات متنوعة، لتصبح أشبه ببستان يزدهر بألوانه وأريجه. هذه الأرض جمعت الكرد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والأيزيديين والآشوريين والسريان وغيرهم، ليبنوا معًا وطنًا غنيًا بتنوعه الثقافي والديني والإنساني. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب من العقلاء والأوفياء تعزيز المساواة الحقيقية وصون كرامة…

إلى أبناء شعبنا الكُردي وجميع السوريين الأحرار، والقوى الوطنية والديمقراطية في الداخل والخارج، من منطلق مسؤولياتنا تجاه شعبنا الكُردي، وفي ظل التحولات التي تشهدها سوريا على كافة الأصعدة، نعلن بكل فخر عن تحولنا من إطار المجتمع المدني إلى إطار سياسي تحت اسم “التجمع الوطني لبناء عفرين”. لقد عملنا سابقاً ضمن المجتمع المدني لدعم صمود أهلنا في وجه المعاناة الإنسانية والاجتماعية…

عبد الرحمن الراشد كثيرٌ ظهرَ وقيلَ عن سجونِ بشارِ الأسد. هناكَ نحوُ مائتي ألفِ سجينٍ ومختفٍ، لكنَّ الحقيقةَ هو أنَّه لم يكنْ من بدأ العنفَ سياسةً للسيطرة، بل ورثَ الفكرةَ والوظيفةَ والمؤسساتِ من والدِه. فقد اعتمدَ الأبُ، حافظُ الأسد، على علاقةٍ استراتيجيةٍ مع الاتحاد السوفياتي، ساعدتْه، مع ألمانيا الشرقية، ونقلتْ إليه تقنيةَ القمعِ الممنهج. ليسَ صدفةً أنَّ نظامَ الأسدِ الحديديَّ…