دستور أقلّوي وسكوت غربي.. وماذا بعد؟

د. ولات محمد

 

    استقبل معظم السوريين الإعلان الدستوري الذي صدر بتاريخ 13/3/2025 بكثير من خيبة أمل نظراً لعدم قدرته على التعبير عن تطلعاتهم وتوقعاتهم من سوريا الجديدة التي ظلت أكثر من نصف قرن تداعب أحلامهم والتي (بغية الوصول إليها) قدموا الكثير من التضحيات في مقاومتهم للاستبداد والديكتاتورية وممارسات الإقصاء والتهميش.

    مبعث خيبة الأمل تلك تمثلَ في عاملين رئيسين: الأول، أن الإعلان الدستوري جاء تعبيراً عن فكر ورغبة وطموح جزء صغير من أحد مكونات المجتمع السوري متجاهلاً رغبات الطيف السوري الواسع والمتعدد والمتنوع بوضوح. أما الثاني فتمثلَ في كون الإعلان الدستوري يؤسس لنظام حكم استبدادي جديد، في حين لا يزال السوريون في حالة استشفاء من تبعات الديكتاتورية الساقطة التي عاشوا في ظلها أكثر من خمسين عاماً، ما جعلهم يقولون لأنفسهم “كأنك يا زيد ما غزيت”.

دستور أقلوي

    جاء الإعلان الدستوري تتويجاً لثلاث خطوات اتخذتها السلطة الجديدة منذ وصولها قصر الرئاسة بدمشق في 8/ 12/ 2024، والتي تمثلت أولاً في تشكيل حكومة تمثل جزءاً صغيراً من المكون السني في سوريا، ثم تشكيل لجنة من الحلقة ذاتها للدعوة للحوار الوطني ثانياً، ثم تشكيل لجنة من ذات اللون لكتابة الإعلان الدستوري ثالثاً، والذي جاءت مخرجاته لتعبر عن رغبات تلك الفئة القليلة وأفكارها دون أن تراعي طلبات وقناعات ألوان الطيف السوري الإثنية والدينية بمن فيها غالبية الطائفة السنية نفسها. وهذا يعني بالمحصلة أن الإعلان الدستوري لم يستطع أن يمثل سوى رغبة أقلية من الطيف السوري الواسع.

    إحدى نتائج استفراد أقلية بصياغة الدستور أن المادة الثالثة تنص على أن “دين رئيس الدولة هو الإسلام”، ولكنه لا ينص على أن رئيس الدولة سوري، وهذا يعني أنه يمكن للشيشاني والأوزبكي والأفغاني أن يكون رئيساً لسوريا ما دام يتوفر فيه الشرط الوحيد (دينه الإسلام)، بينما لا يحق ذلك للسوري الآشوري والسرياني والأرمني والإيزيدي، بل وحتى الدرزي والعلوي أيضاً بمعنى من المعاني. وهذا يتناقض مع مادته العاشرة التي تقول: “المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب”!!  

 

وماذا عن التوقيع؟

    إذا كانت غالبية الشعب السوري غائبة عن الدستور الأقلوي، فإن غياب الكورد عنه له طابع خاص، ذلك أن السيدين أحمد الشرع (الرئيس السوري) ومظلوم عبدي (قائد قسد) قد وقعا بتاريخ 10/3/2025 على اتفاقية من ثمانية بنود دفعت الناس للخروج إلى الشوارع فرحاً واحتفالاً بما جاء فيه. أما الكورد فقد فرحوا به من جهتهم لسببين: الأول أنه نزع فتيل اقتتال محتمل بين السوريين كان يمكن أن ينشب في أي وقت نتيجة شحن وتجييش إعلاميين قامت بهما جهات مغرضة. والثاني أن الاتفاق (ولأول مرة في تاريخ الدولة السورية) يذكر الكورد صراحة في وثيقة رسمية تعترف بكونهم مكوناً أصيلاً في المجتمع السوري، إذ يقر البند الثاني منه بأن “المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة السورية حقه في المواطنة وكافة حقوقه الدستورية”. وهذا ما جعل الكورد يتوقعون أن الإعلان الدستوري سوف يتضمن شيئا بهذا المعنى. 

    ما حصل أنه بعد ثلاثة أيام من توقيع هذا الاتفاق صدر الإعلان الدستوري خالياً تماماً من أي ذكر للكورد، فبدا الأمر وكأن الاتفاق ذاك كان خدعة من السيد الشرع أو تنصلاً مما وقّع عليه. ذلك لأن خلوّ الدستور من أي ذكر للكورد يناقض بل ينسف ما جاء في نص الاتفاق الثنائي الذي يقول إن “المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية.”؛ فإذا كان الكورد جزءاً أصيلاً من المجتمع السوري فلماذا لم ينص الإعلان الدستوري على ذلك؟ خصوصاً أن هذا المكون يشكل تقديرياً 15% من مجمل سكان سوريا.

    من جهة أخرى ما المقصود بعبارة “وكافة حقوقه الدستورية” التي وردت في ذلك الاتفاق؟ ولماذا لم يشر الإعلان الدستوري إلى تلك الحقوق؟! فإذا كان معناها أن للكورد (إضافة إلى حق المواطنة) خصوصية وحقوقاً سوف تضمنها الدولة، فلماذا لم يذكرها الإعلان الدستوري ولو بعنوان عام؟!، بل لماذا لم يرد فيه ذكر للكورد من قريب أو بعيد وهم يشكلون ثاني أكبر قومية في البلاد؟

    لكل ذلك من حق الكوردي أن يتساءل: هل ما جاء في الاتفاق كان خديعة وما جاء في الدستور كان تنصلاً من توقيع؟ وعليه، هل هكذا سوف تبنى سوريا الجديدة؟!

 

السكوت الدولي و”حرب الدستور”!

    إذا كان الإعلان الدستوري لا يمثل إلا أفكار ورغبات أقلية من المجتمع السوري، وإذا كان معظم مكونات ذلك المجتمع الإثنية والدينية والطائفية (بما فيها شريحة كبيرة من المكون السني) لا تجد نفسها في ذلك الإعلان، بل تشعر أنها مهمشة وبلا قيمة وبلا رأي في دولتها الجديدة، فلماذا تمضي السلطة الجديدة في فرضه على الناس وتصر على مخالفة إرادتهم؟ ألا يوجد بديل أو تعديل يرضى عنه معظم السوريين؟

    إن الإصرار على المضي بهذا الإعلان الدستوري بمواده المليئة بالمتناقضات والمجحفة بحق السوريين والمخيبة لآمالهم قد يصطدم بتحديات داخلية وأخرى خارجية؛ فعلى الصعيد الداخلي قد تدخل السلطة الجديدة مع مكونات المجتمع السوري في صراعات من شأنها أن تعيق بناء الدولة الجديدة وتمنع سيادتها على كل جغرافيتها، ما قد يدفع باتجاه ما يمكن أن نسميه “حرب الدستور“. أما على الصعيد الخارجي فمن المستبعد أن يدخل الغرب في علاقات طبيعية وكاملة مع هذه السلطة أو يرفع عنها العقوبات أو يقدم لها مشاريع تتعلق بالاستثمار وإعادة البناء إذا لم تثبت له أن العملية السياسية عامة وشاملة ومنفتحة على مكونات المجتمع السوري كافة.

    هذا يعني أن السلطة الجديدة بدلاً من أن تنشغل بإعادة البناء، سوف تنشغل بمواجهة الخارج والداخل على حد سواء، مع ملاحظة أن رهانها على الخارج حتى الآن أكثر من رهانها على الداخل. وإذا كان الخارج لم يعترض صراحة على الإعلان الدستوري (وعلى الخطوات الثلاث التي سبقته) رغم الاعتراضات الداخلية عليه، فإن هذا قد يدفع السلطة للوقوع في فخ الظن بأن هذا السكوت الغربي علامة رضى، وقد يدفعها هذا التفسير الخاطئ إلى الطمع في إنشاء نظام حكم استبدادي جديد من جهة، والتجرؤ (من جهة ثانية) على الدخول في صراع مع السوريين قد يصل إلى حرب أهلية بين سلطة تريد فرض دستور أقلوي بالقوة وبين غالبية شعب ترفض مصادرة إرادتها، صراع قد ينتهي إلى تقسيم الجغرافيا السورية وبأيدي السلطة ذاتها. ومن هنا سوف ترتكب السلطة خطأ كبيراً إذا ما نظرت إلى سكوت الغرب عن مساوئ الإعلان الدستوري على أنه علامة رضى أو ضوء أخضر لها لترسيخ حكم مستبد جديد كما تظن وتحلم، لأنها بذلك تنصب لنفسها فخاً لتقع فيه.

    ثمة احتمال آخر قد ينتج عن هذا السكوت الغربي يتمثل في بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه لعدة سنوات (دون الدخول في أي صراع) إلى حين وضع دستور دائم أكثر إنصافاً وتمثيلاً للتنوع الإثني والديني في سوريا وانتهاء العمل بالإعلان الدستوري.

    إجمالاً إذا رفضت السلطة تعديلاً للدستور أو إبقاء الوضع على ما هو عليه إلى حين إقرار دستور دائم، وإذا ما وقعت في فخ حرب أهلية مع مكونات المجتمع السوري بغية فرض إعلانها الدستوري وبدفع من أطراف معينة داخلية أو إقليمية، فهل يحق لها حينذاك أن تتحدث عن مؤامرة أمريكية غربية كونية (كما فعل النظام السابق)، أم عليها أن تتذكر عندئذ أنها هي التي (كما فعل النظام السابق أيضاً) رفضت الاستماع إلى ألوان السوريين وأصواتهم وراهنت على دعم الغرباء وسكوتهم؟!  

 

 

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني كان يكبرنا سناً ومحل احترام وتقدير لدينا جميعاً وفي المؤتمر (……) كان بيني وبينه وسادة، لمحته ينظر لوجوه المؤتمرين، هامسته : هل أكملت جدول الانتخاب ..؟. أجاب: مازال قائمتي بحاجة الى بعض المرشحين ..؟!. وضعت ورقتي المليئة بالأسماء التي انتخبتهم حسب قناعتي بهم على الوسادة أمامه، تفضل ..؟. نظر أليَّ باستغراب، رغم ثقته بي ووضع…

صلاح بدرالدين   منذ عدة أعوام ولم تنفك وسائل اعلام أحزاب طرفي ( الاستعصاء ) – ب ي د و انكسي – تنشر تباعا عن تدخل وسطاء دوليين لتقريب الطرفين عن بعضهما البعض ، والاشراف على ابرام اتفاقية كردية – كردية ، وانهاء عقود من حالة الانقسام في الصف الكردي السوري !!، من دون توضيح أسس ، وبنود ذلك الاتفاق…

خالد بهلوي   لم يعد سرًّا أن البلاد تمر بحالة انهيار اقتصادي شملت جميع القطاعات والمؤسسات، والدليل على ذلك المعاناة اليومية للمواطنين من الفقر والجوع والعجز عن تأمين أبسط مستلزمات الحياة اليومية، نتيجة توقّف الرواتب وتسريح الآلاف من الموظفين من أعمالهم. تزامن ذلك مع ارتفاع الأسعار والغلاء الفاحش الذي يزداد يومًا بعد يوم دون أي حلول تلوح في الأفق….

إبراهيم اليوسف سبع سنوات من الظلام تحت الاحتلال التركي ومرتزقته!   لم تكن عفرين ضحية حربٍ عادية، بل كانت ساحةً لأحد أبشع سيناريوهات الاحتلال الممنهج في القرن الحادي والعشرين. إذ أنه منذ اجتياحها واحتلالها عام 2018، دخلتها القوات التركية ومعها جحافل الفصائل المسلحة، الذين لم يكونوا سوى أدواتٍ رخيصة لتنفيذ أجندة أنقرة. تحت قناع “عملية غصن الزيتون”،…