خيانة القضية الكردية بين انقسام الداخل وتحديات المصير

 بوتان زيباري
في قلب جبال كردستان الشاهقة، حيث تتشابك القمم مع الغيوم وتعزف الوديان أنشودة الحرية الأبدية، تتصارع القضية الكردية بين أمل يتجدد ويأس يتسلل إلى زوايا الذاكرة الجمعية. ليست القضية الكردية مجرد حكاية عن أرض وهوية، بل هي ملحمة إنسانية مكتوبة بمداد الدماء ودموع الأمهات، وحروفها نُقشت على صخور الزمن بقلم الصمود. ولكن، كما هي عادة الروايات الكبرى، تشوهت بعض فصولها بسواد الانقسام وبريق المصالح الضيقة، حتى أضحت القضية رهينة خلافات داخلية وهواجس خارجية.
الانقسام الكردي ليس مجرد تباين في وجهات النظر أو تنافس سياسي، بل هو جرح مفتوح ينزف منذ عقود. حين يتحول الاختلاف إلى سلاح يطعن الجسد من الداخل، تتبدد الآمال ويُجهض المستقبل. الأحزاب والفصائل التي تعلو أصواتها في الساحات وتتنافس على الشعارات الرنانة، كثيرًا ما تتناسى أن الشعب هو الضحية الأولى. المصالح الحزبية الضيقة أضحت كالأغلال تكبّل مسيرة التحرر، والقيادات التي ترفض الحوار وتتهرب من التوافق ترتكب خيانة أخلاقية وتاريخية بحق أجيال حلمت بوطن آمن ومستقر.
إن الوحدة ليست مجرد شعار يُرفع عند الأزمات، بل هي التزام أخلاقي وتكتيك استراتيجي لا غنى عنه. فالقيادة ليست كرسيًا من ذهب ولا منصة خطابات، بل هي مسؤولية جسيمة تتطلب من القائد أن يتجرد من ذاته ويضع مصلحة شعبه فوق كل اعتبار. إن الأيدي التي ترفض الامتداد إلى بعضها ستبقى مشلولة في مواجهة التحديات الكبرى، وإن القلوب التي تغلق أبوابها أمام الحوار ستظل عالقة في سراديب الضياع.
أما الرهان على القوى الخارجية فهو فصل آخر من فصول التيه. في عالم السياسة، لا مكان للضعفاء ولا احترام للممزقين. الدول الكبرى لا تقدم دعمها إلا وفق مصالحها، ولا تعترف إلا بالقادة القادرين على فرض إرادتهم وتوحيد صفوفهم. التاريخ مليء بالدروس القاسية التي تؤكد أن انتظار الحل من الخارج ليس سوى سراب يتبدد عند أول اختبار حقيقي.
في خضم هذا المشهد المعقد، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: أين الضمير الوطني؟ كيف تستمر الخلافات بينما تُهدم القرى وتُسفك دماء الأبرياء؟ القيادة ليست امتيازًا، بل هي امتحان قاسٍ تتطلب تضحيات شخصية وإيثارًا مطلقًا. صرخات الأمهات ودموع الأيتام ليست مجرد مشاهد عابرة في نشرات الأخبار، بل هي نداء يجب أن يتردد صداه في كل اجتماع وكل قرار.
إن التاريخ لن يرحم. سيكتب بأقلام لا تعرف المجاملة أسماء أولئك الذين خانوا الأمانة أو تقاعسوا عن واجبهم. وستبقى الأجيال القادمة تقرأ عن الفرص الضائعة والحظوظ المهدرة، لكنها ستقرأ أيضًا عن قادة شجعان آمنوا بوحدة الصف وجعلوا القضية الكردية أولوية مطلقة.
أيها القادة، إنكم اليوم تقفون على حافة منعطف تاريخي حاسم. الوحدة ليست ترفًا ولا خيارًا ثانويًا، بل هي جسر العبور الوحيد نحو المستقبل. لا وقت لمزيد من المزايدات ولا مجال للمزيد من الأخطاء. الشعب الكردي يستحق قيادة تليق بتضحياته وأحلامه، قيادة تنظر إلى الأفق البعيد لا إلى أقدامها، وتؤمن بأن القضية الكردية أقدس من أي مصلحة وأكبر من أي خلاف.
الخيار واضح، إما أن تُكتب صفحات جديدة من الأمل والانتصار، أو أن تُطوى صفحة أخرى من الخذلان والنسيان. فليكن القرار بحجم التضحيات، ولتكن الخطوة الأولى باتجاه مستقبل مشترك، تتعانق فيه القمم من جديد، ويصدح صوت الحرية بلا قيود.
السويد
24.12.2024

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…