حين يصبح الإرهاب شريكًا سياسيًا نداء إلى الحراك الكوردي

د. محمود عباس

في لحظة مفصلية من تاريخ سوريا المنهكة، يقف الحراك الكوردي أمام اختبار أخلاقي وسياسي وثقافي بالغ الخطورة:

هل سيُمنح التكفيريون شرعية جديدة، أم يُحاصرون في الزاوية التي خرجوا منها أول مرة؟

إننا نناشد، وبكل وضوح، أعضاء المؤتمر الوطني الكوردي المزمع عقده في 26 نيسان 2025 في قامشلو، وقيادة قوات قسد، والإدارة الذاتية، والمجلس الوطني الكوردي، وجميع أطياف الحراك الكوردي، أن يرفضوا الاعتراف بما يُسمى بـ “الحكومة السورية المؤقتة” تلك التي خرجت من رحم الإرهاب، ونمت في أحشاء هيئة تحرير الشام، التي لا تمثل سوى إعادة إنتاج لمنظمة داعش، ولكن بمسميات جديدة وواجهة أكثر تلميعًا، إلا إذا قبلت صراحةً بالنظام الفيدرالي اللامركزي، باعتباره السدّ الوحيد القادر على منع تسرب ثقافتها الظلامية إلى المنطقة.

فهم، ليس فقط، لا يُمثلون الإسلام السلمي الروحي، بل يجسّدون أخطر أشكال “الإسلام السياسي الجهادي التكفيري”، إسلامًا مُسيّسًا مُفخخًا، يُسخَّر كأداة لخدمة مشاريع أيديولوجية وأمنية، غاياته ليست الإصلاح، بل السيطرة، لا يهدف إلى التنوير، بل إلى التجنيد والتكفير، ويضرب أول ما يضرب نسيج المجتمع، وتعدد مكوناته القومية والدينية، فتمتد نيرانه لا لتطهّر، بل لتحرق، ولا تبني وطنًا، بل تفككه من الداخل، باسم الله وضد الإنسان.

فأي اعتراف بهذه “الحكومة”، دون رسم خط سياسي وإداري فاصل وواضح، ليس سوى اعتراف مُبطّن بداعش، لكن هذه المرة بلحية مشذبة وربطة عنق، فالقادة الذين يديرونها تخرّجوا من نفس المدارس الفكرية الظلامية، ويمارسون ذات المنهجية الإقصائية، وإن غلّفوها بشعارات “الوطنية” و”التمثيل الشرعي”.

وهذا التسويق، الذي يجري تحت غطاء التوافق السياسي، يروّج لخديعة كبرى مفادها أن هذه الحكومة قد تحظى باعتراف القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لكن الحقيقة أنها لا تمثل إلا تيارًا فكريًا أحاديًا، إقصائيًا، تكفيريًا، وأن القبول بها أو حتى الحوار معها دون شروط مبدئية صارمة، هو تضليل سياسي مكشوف، وخدمة مباشرة لمشروع خطير يستهدف بنية الدولة، وتنوع المجتمع، ووجود المكونات القومية والدينية، وفي مقدمتهم الشعب الكوردي.

وهنا لا يمكن تجاهل دور تركيا، المحرّك الأساسي لهذا المشروع، تركيا لا تدعم هيئة تحرير الشام والحكومة المؤقتة سياسيًا فقط، بل ترعاها أيديولوجيًا، وتموّل بنيتها العسكرية والإدارية، لأن هذه الحكومة تحقق هدفين استراتيجيين:

  • ضرب المشروع القومي الكوردي من جذوره، عبر تسويق فكر “الإسلام السياسي الجامع”، الذي يمحو الهويات القومية، ويمنع أي صيغة ديمقراطية فيدرالية لامركزية، ويُفرَض على “الحكومة المؤقتة” تبنيه كخط أحمر، دون حق المناقشة، وقد فُرض المشروع مباشرة على قادة هيئة تحرير الشام، وهم الآن منفذوه.
  • تحويل سوريا إلى بوابة للهيمنة التركية على العالم العربي، ولهذا يتلقون دعم أنقرة، التي كانت في السابق الراعي الخفي لتنظيم داعش، وهي اليوم الراعي الرسمي لنسخته الجديدة “المُقنّعة” وتعمل عبر هذا الكيان على السيطرة على موارد سوريا، ومفاصلها، وإعادة هندستها ديموغرافيًا وثقافيًا، لتجعل منها منطلقًا لمشروع عثماني جديد يمدّ ظلاله على كامل الجغرافيا العربية.

أي تهاون أمام هذه الحقائق هو مساهمة لا واعية في بناء كيان ديني تكفيري، لن يُهدد الكورد فقط، بل جميع المكونات السورية والعربية، وسيحوّل سوريا من دولة محطمة إلى قاعدة فكرية إرهابية تُصدّر الفوضى باسم الدين.

الحركة الكوردية، منذ نشأتها، كانت حركة ديمقراطية، وطنية، مدنية، تؤمن بتعدد الأديان والقوميات، لم تولد من رحم الفتاوى، ولا من كهوف الصحراء، بل من قاعات الفكر والكتب والساحات الشعبية، وهي لا يمكن أن تجد أي تقاطع منطقي أو أخلاقي أو مصلحي مع جماعة تكفيرية، مهما لبست من أقنعة الدولة.

بل أكثر من ذلك، لا تزال المعركة الفكرية والثقافية مع تنظيم داعش قائمة، ورغم الانتصار العسكري الذي تحقق في باغوز، إلا أن النصر الثقافي لم يُنجز بعد. مخيم الهول بات عاصمة رمزية جديدة للفكر الداعشي،

والنساء الداعشيات يربين فيها جيلاً جديدًا من الكراهية والتكفير، والتعليم شبه معطل، والثقافة مغيبة، والفكر المعتدل محاصر، وما يجري في دمشق هو دعم مباشر وغير مباشر لهذا الفكر الظلامي.

ولهذا، من واجب الحراك الكوردي أن يستكمل المعركة، ليس فقط بمنع الاعتراف بالتنظيمات الإرهابية المقنّعة، بل بتفكيك بيئتها الفكرية، من خلال، فرض أنماط تعليم علماني صارم، إعادة بناء الهويات المكسورة بمفاهيم الحرية والمساواة والمعرفة، وحظر كل رمزية دينية فرضية تُستخدم كأداة سلطة وهيمنة.

أما اليوم، ومع سيطرة هيئة تحرير الشام على “الحكومة السورية المؤقتة”، فإننا أمام مرحلة ارتداد حضاري خطير، وإذا لم تُغلق الأبواب في وجه هذا التيار، فسنستيقظ ذات يوم، لنجد أن الفكر الذي دحرناه بالسلاح قد عاد بالقانون، وبالاعتراف الدولي، وبصوت كوردٍ ساهم في تعويمه.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

24/4/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…