د. محمود عباس
سوريا بعد انهيار نظام الأسد تعيش لحظة مفصلية قد تحدد مستقبلها لعقود قادمة. مع سيطرة هيئة تحرير الشام، التي تنتمي إلى فكر إسلامي متشدد، يظهر تساؤل جوهري حول ما إذا كانت البلاد تتجه نحو نموذج دولة دينية متطرفة، كأفغانستان على سبيل المثال والتي تتعارض والتطور الحضاري، وما إذا كانت القوى الكبرى ستقبل بهذا التحول أو ستسعى لتغييره أو إغراقه في صراعات داخلية مستمرة بحيث لا تقوم لها قائمة. الإجابة عن هذا السؤال ليست بسيطة، بل تستلزم فهمًا معمقًا للديناميكيات التي قد تؤدي إلى هذا المصير أو تمنعه.
أولاً، التحول إلى دولة دينية متطرفة ليس مجرد مسألة هيمنة عسكرية؛ بل هو نتاج لبيئة سياسية واجتماعية تسودها الفراغات. هيئة تحرير الشام، رغم سيطرتها على أجزاء من البلاد، لا تملك الشرعية الكافية داخليًا أو خارجيًا لفرض نموذج حكم ديني متشدد على كامل سوريا.
المجتمع السوري، بتنوعه الإثني والديني، يصعب إخضاعه لرؤية أحادية تستند إلى تفسير متشدد للدين. وقد أثبتت تجربة السنوات الماضية أن هذه الرؤية عززت الانقسامات وأظهرت هشاشة الأيديولوجيات التي تعتمد على الإقصاء. وتجربة شعوب المنطقة مع تنظيم داعش، الذي كان قبل عام 2014 في تحالف وتنسيق كامل مع جبهة النصرة سابقًا وهيئة تحرير الشام حاليًا، تُظهر بوضوح تلك الإشكالية. فكلا التنظيمين كانا ينضويان تحت خيمة فكرية واحدة، قبل أن ينفصلا على خلفية الانتماء إلى مرجعيتين متطرفتين.
داعش يُعد خير مثال على هذه الإشكاليات، حتى وإن حاولت هيئة تحرير الشام، بعد تغيير اسمها من النصرة، أن تُبرز ذاتها على الساحة الوطنية والعالمية بصيغة تبدو أقل راديكالية إسلامية. ومع ذلك، تبقى رموزها تعكس خلفيتها الفكرية، كما يظهر في العلم الوطني الذي أُزيلت منه النجوم واستُبدلت بالبسملة. كما أنها ترفع بالتوازي مع علم الثورة علمًا أبيض يحمل مخطوطة دينية، وهو اللون الذي يرمز إلى الخلافة الأموية. وقد أشار أحد قادة الهيئة إلى أن وجودهم حاليًا في عاصمة الخلافة الأموية يحمل رمزية واضحة.
لذلك فالمرونة السياسية الفكرية التي تبديه قادة الهيئة في تصريحاتها، لا يعني أن خطر التحول إلى دولة دينية غير موجود. في ظل غياب بدائل سياسية قوية، يمكن أن تستغل هيئة تحرير الشام هذا الفراغ لفرض نموذجها تدريجيًا، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها. هنا يكمن التحدي الحقيقي: هل يمكن لهذه المنظمة أن تتطور من فصيل عسكري إلى كيان سياسي ذي قبول دولي؟ وإذا حدث ذلك، كيف ستتعامل القوى الكبرى مع هذا التطور؟ واختلاف تعاملها مع تركيا بعد انتقالها من منهجية الإسلام الليبرالي إلى الراديكالي ودعمها لداعش تبين مدى رهبة أو لنقل تحفظ هذه الدول من دولة من المتوقع أن تسيطر عليها منظمة إسلامية راديكالية.
القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، رغم تراجع دور الأخيرة، لديها حساسية شديدة تجاه صعود دولة دينية متطرفة في قلب الشرق الأوسط، وهي إحدى أهم الجغرافيات بالنسبة لمصالحها. مثل هذا التحول قد يعيد إنتاج صدمة صعود طالبان في أفغانستان، حيث تصبح سوريا مركزًا إقليميًا للتطرف الديني، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الدولي. لكن التدخل المباشر لإيقاف هذا السيناريو ليس مضمونًا؛ إذ أن القوى الكبرى غالبًا ما تفضل العمل من خلال أدوات غير مباشرة مثل دعم القوى المحلية المعارضة أو فرض عقوبات اقتصادية خانقة، مثلما طبقته على إيران. كما ولا يستبعد أن يكون القصف الإسرائيلي المتواصل طوال اليومين الماضيين على المنشآت السورية العسكرية والاقتصادية الرئيسية، خطوة استباقية لئلا تخرج السلطة الجديدة عن الإطار المحدد لها، وبحيث تظل في وضع بالإمكان إزالتها فيما لو تجاوزت ما هو محدد لها، أو إذا شكلت خطرا على الأمن الدولي.
في هذا السياق، قد تكون هناك محاولة دولية لتطويع هيئة تحرير الشام بدلاً من مواجهتها، على غرار ما حدث مع طالبان في بعض المراحل. هذه الإستراتيجية تستند إلى فكرة أن التحول التدريجي نحو الاعتدال يمكن أن يكون أكثر فعالية من الصدام المباشر. مع ذلك، مثل هذه المقاربة محفوفة بالمخاطر، لأنها قد تمنح الهيئة شرعية لا تستحقها وتؤدي إلى تعزيز نفوذها.
اجتماعيًا، التحدي أمام هيئة تحرير الشام في فرض نموذج ديني متشدد هو أن المجتمع السوري، الذي تعرض لأهوال الحرب والنزوح والفقر، يميل أكثر نحو السعي للاستقرار والأمن بدلاً من قبول أيديولوجيات إقصائية. هذا يعني أن أي محاولة لفرض التطرف ستواجه مقاومة داخلية، قد تأتي على شكل احتجاجات شعبية أو تحالفات بين فصائل معارضة محلية.
الدول الإقليمية، خاصة تركيا، تلعب دورًا في تشكيل مستقبل سوريا. أنقرة، رغم دعمها لبعض الفصائل الإسلامية وخاصة لهيئة تحرير الشام، لديها حساباتها الخاصة مع الكورد وقضيتهم، لكنها مع ذلك لن تكون مرتاحة لصعود دولة دينية عربية متطرفة على حدودها، خاصة إذا كانت ذات توجه مستقل وغير خاضعة لنفوذها. لذلك، قد تضغط تركيا، مستقبلا، لدفع هيئة تحرير الشام نحو تقديم تنازلات سياسية تضمن استقرار الحدود وتمنع تحول سوريا إلى مصدر تهديد مباشر.
من زاوية أخرى، قد يكون هناك توجه دولي لإعادة تشكيل الخارطة السياسية السورية من خلال تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ واضحة، هذا السيناريو قد يقلل من خطر تحول سوريا إلى دولة دينية متطرفة شاملة، ولكنه يحمل في طياته مخاطر أخرى مثل تفكيك الدولة السورية بشكل دائم وتحويلها إلى مجموعة من الكيانات المتناحرة.
من شبه المؤكد أن قبول القوى الكبرى بتحول سوريا إلى دولة دينية متطرفة ليس احتمالًا واردًا على المدى البعيد، حتى لو حدث ذلك بشكل مؤقت في بعض المناطق. وما يُثار حول احتمالية أن ترفع أمريكا صفة الإرهاب عن هيئة تحرير الشام لفتح باب الحوار المباشر معها، يستدعي التوقف عند تفاصيله. فمن المعروف أن الولايات المتحدة تتواصل مع الهيئة حاليًا عبر تركيا، وقد وجهت لها عدة تنبيهات، منها عدم تقديم أي مساعدة لتنظيم داعش أو خلاياه النائمة، مع تحذير واضح من تقديم أي دعم مباشر أو غير مباشر لهذا التنظيم.
هذا التحذير يُعد تهديدًا غير مباشر لهيئة تحرير الشام في حال لم تلتزم بما تُظهره في تصريحاتها المرنة. وبشكل عام، فإن النظام الدولي الحالي لا يتسامح مع ظهور كيانات سياسية تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي والدولي، خصوصًا في منطقة مثل الشرق الأوسط، حيث يُعد أخطر التهديدات تلك الكيانات المتطرفة دينيًا.
مستقبل سوريا، إذن، مرهون بقدرة السوريين والمجتمع الدولي على إيجاد توازن دقيق يمنع التطرف ويعزز نموذجًا سياسيًا يتوافق مع تطلعات الشعب السوري، بعيدًا عن هيمنة أي أيديولوجية قسرية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
10/12/2024م