حلم على ضفاف الياسمين: سوريا التي تُولد من جديد

 بوتان زيباري
رأيتُ سوريا في المنام، تقف على تلٍ عالٍ، عيناها مغمضتان كمن ينتظر حُكم القدر. كان وجهها متعبًا، مُثقلًا بغبار الحروب، وشعرها مشعثًا تراقصه رياح الخوف. ومع ذلك، كانت في عينيها مساحات شاسعة من الأمل، كأنها تقول: “أنا باقية… ولن أنهزم.”
في الحلم، لم تكن سوريا مجرد جغرافيا أو خطوطًا متشابكة على الخرائط. كانت أمًّا تضم أطفالها الذين شُرّدوا في مخيمات، وأبًا يبتسم رغم أن يديه لم تعودا قادرتين على الإمساك بمِعول الأرض. كانت شوارع دمشق تفتح ذراعيها للعائدين من المنافي، كأنها تُعيدهم إلى حضنها الدافئ بعد شتاء طويل. حلب، التي نُسجت حكاياتها من خيوط الصبر، كانت تعود لتضجّ بالحياة، تُعيد فتح أسواقها القديمة التي تنبعث منها رائحة التوابل والحرير. في عفرين، رأيت أطفالًا كورداً يركضون بين أشجار الزيتون، يُغنّون للسلام بدلًا من أصوات الرصاص.
سوريا بعد العاصفة كانت مسرحًا للحياة. لم يكن هناك قائدٌ فردي، ولا حزبٌ واحد يتحكم في مصائر الناس. كانت هناك قاعات حوار يتحدث فيها الجميع؛ العربي والكوردي والآشوري والسرياني. كانت هناك قوانين تُحترم، لا تُصاغ لتُخرق، وكان المواطن فيها ملكًا لا رعية.
الحلم كان أكبر من إعادة إعمار أبنية مدمرة، كان إعادة إعمار القلوب والنفوس. كنت أرى طفلة تكتب على دفترها الصغير: “اليوم ذهبت إلى المدرسة ولم أسمع صوت القذائف.” كان الشبان يعودون إلى جامعاتهم، يدرسون الطب والهندسة والفنون، لا كيف يصنعون قنابل يدوية. كان المزارعون يعودون إلى حقولهم، يزرعون القمح والتفاح بدلًا من حقول الألغام.
لم يكن الطريق سهلًا في الحلم. كان هناك الكثير من الجراح المفتوحة، والكثير من الأيدي المرتجفة التي ترفض المصالحة. لكن وسط كل ذلك، ظهر المثقف السوري كحكيمٍ قديم، يجلس تحت شجرة زيتون، يروي قصص الماضي ليحذر من تكراره. رأيته يكتب كتبًا عن التسامح والعدالة، ويرفع صوته ضد كل من يريد استغلال آلام الناس لتحقيق مكاسب شخصية.
المثقف في الحلم لم يكن نجمًا على شاشات التلفاز، بل كان ظلًّا يتنقل بين الناس، يحثّهم على بناء الجسور بدلًا من الجدران. كان يُعلم الأطفال في قرى نائية القراءة والكتابة، ويجلس مع الكبار ليُذكّرهم أن الوطن ليس حفنة تراب، بل فكرة يسكنها الجميع.
في نهاية الحلم، رأيت سوريا كطائر الفينيق، تنفض الرماد عن جناحيها وتحلّق عاليًا. كانت جبالها خضراء، وأنهارها صافية، وشوارعها تملؤها ضحكات الأطفال. كان لكل بيت شُرفة تطل على الأمل، وكان لكل مواطن حلم لا يخاف أن يُعلنه بصوت عالٍ.
استيقظت من الحلم، لكنني لم أشعر بأنه انتهى. ربما لأن سوريا ليست مجرد حلم يُحكى، بل هي قصة يجب أن تُكتب بعرق الصادقين، ودموع الأمهات، وصبر الذين آمنوا بأن الوطن يستحق حياة أخرى، أجمل من تلك التي حاول الموت أن يكتب نهايتها.
السويد
07.01.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس في لقائه الصحفي الأخير اليوم، وأثناء رده على سؤال أحد الصحفيين حول احتمالية سحب القوات الأمريكية من سوريا، كرر خطأ مشابهًا لأخطائه السابقة بشأن تاريخ الكورد والصراع الكوردي مع الأنظمة التركية. نأمل أن يقدّم له مستشاروه المعلومات الصحيحة عن تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وخاصة تاريخ الأتراك والصراع بين الكورد والأنظمة التركية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. للأسف، لا…

إبراهيم اليوسف ليست القيادة مجرد امتياز يُمنح لشخص بعينه أو سلطة تُمارَس لفرض إرادة معينة، بل هي جوهر ديناميكي يتحرك في صميم التحولات الكبرى للمجتمعات. القائد الحقيقي لا ينتمي إلى ذاته بقدر ما ينتمي إلى قضيته، إذ يضع رؤيته فوق مصالحه، ويتجاوز قيود طبقته أو مركزه، ليصبح انعكاساً لتطلعات أوسع وشمولية تتخطى حدوده الفردية. لقد سطر…

نارين عمر تدّعي المعارضة السّورية أنّها تشكّلت ضدّ النّظام السّابق في سوريا لأنّه كان يمارس القمع والظّلم والاضطهاد ضدّ الشّعوب السّورية، كما كان يمارس سياسة إنكار الحقوق المشروعة والاستئثار بالسّلطة وعدم الاعتراف بالتّعدد الحزبي والاجتماعي والثّقافي في الوطن. إذا أسقطنا كلّ ذلك وغيرها على هذه المعارضة نفسها – وأقصد العرب منهم على وجه الخصوص- سنجدها تتبع هذه السّياسة بل…

فوزي شيخو في ظل الظلم والإقصاء الذي عاشه الكورد في سوريا لعقود طويلة، ظهر عام 1957 كفصل جديد في نضال الشعب الكوردي. اجتمع الأبطال في ذلك الزمن لتأسيس حزبٍ كان هدفه مواجهة القهر والعنصرية، وليقولوا بصوتٍ واحد: “كوردستان سوريا”. كان ذلك النداء بداية مرحلةٍ جديدة من الكفاح من أجل الحرية والحقوق. واليوم، في هذا العصر الذي يصفه البعض بـ”الذهبي”، نجد…