إبراهيم اليوسف
لم تكن ثقافة العنف في سوريا وليدة لحظة أو حدث عابر، بل هي نتاج عقود من السياسات القمعية التي سعت إلى إحكام السيطرة على المجتمع من خلال ممارسات شمولية اعتمدت الترهيب والتدمير المنهجي لأي محاولة للخروج عن النص السلطوي. حافظ الأسد، الذي استولى على السلطة عام 1970، أرسى قواعد نظام أمني مبني على الخوف والولاء المطلق، حيث لعبت الأجهزة الأمنية دوراً محورياً في قمع الحريات واحتكار السلطة. المجازر التي ارتكبها النظام خلال فترة حكمه، وعلى رأسها مجازر حماة عام 1982، شكلت رمزاً لهذه السياسات الدموية. لم يكن تدمير المدينة وقتل الآلاف مجرد رد فعل عسكري على تمرد مسلح، بل رسالة واضحة إلى كل من يفكر في تحدي سلطة النظام.
ومع انتقال السلطة إلى بشار الأسد، لم يكن التغيير سوى في الأسلوب لا الجوهر. وإن الخطاب الذي استند في بداياته إلى الحداثة والإصلاح سرعان ما انهار مع اندلاع الثورة السورية عام 2011. فقد أضاف الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات بعداً جديداً للصراع، حيث تم استغلال الإعلام لتسويغ القمع وكشف صور جرائم النظام، التي باتت تُرتكب علناً. وما بدأ كمظاهرات سلمية للمطالبة بالحرية والكرامة سرعان ما تعرض لحرب شاملة نتيجة قمع النظام الوحشي. كما أن دخول قوى إقليمية ودولية على خط الصراع أضاف تعقيداً غير مسبوق، حيث أصبحت سوريا ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية، بينما دفع الشعب السوري ثمناً باهظاً من الدماء والدمار.
العنف المضاد وأثره على النسيج الاجتماعي
ردود الفعل الشعبية التي لجأت إلى العنف المضاد لم تكن إلا انعكاساً للطبيعة القمعية للنظام، لكنها في الوقت ذاته ساهمت في تعقيد المشهد. فالفصائل المسلحة التي ظهرت كرد فعل طبيعي على قمع النظام انزلقت- بدورها- تدريجياً إلى ممارسات مشابهة لما تحاربه، بعد تمويل أكثرها من قبل تركيا وبعض دول الخليج. كما أن استهداف بعض المدنيين العزل الأبرياء من قبل النظام على أنهم وراء ذلك أو من قبلهم تحت ذريعة مقاومة النظام عزز مناخ الخوف والانقسام داخل المجتمع. هذه الممارسات لم تضعف قبضة النظام فحسب، بل أعطته فرصة لتقديم نفسه كحامٍ للدولة في مواجهة “الإرهاب”، مستغلاً ذلك لتسويغ حملاته القمعية أمام الداخل والخارج.
العنف المضاد لم يكن مجرد خيار تكتيكي، بل تحول إلى نهج لدى بعض الأطراف المعارضة، ما أدى إلى مزيد من الشرخ الاجتماعي. استهداف الفئات التي لم تصطف بشكل واضح مع أي طرف من الطرفين: الموالاة والمعارضة، ساهم في تمزيق الهوية الوطنية وتكريس ثقافة الانتقام. هذا النهج أدى إلى فقدان الكثير من السوريين الثقة في أي حل سياسي، حيث بات بعضهم يرى في الطرفين، أدوات للعنف لا للبناء، لاسيما بعد تعنت رأس النظام ورفضه للحل الأممي غيرالجاد، في رأيي!
سوريا بين الإرث الثقيل ورؤية المستقبل
الخروج من هذا الإرث المأساوي يتطلب قراءة شاملة للتاريخ الحديث لسوريا، حيث لا يمكن تجاهل أن ثقافة العنف ليست مجرد سياسة نظام، بل هي انعكاس لبيئة سياسية واجتماعية ساهمت في تعزيزها. بناء سوريا جديدة يتطلب إصلاحاً عميقاً يبدأ من الاعتراف بالأخطاء الماضية وتقديم العدالة للضحايا، وصولاً إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس تحترم حقوق الإنسان وتضمن العدالة والمساواة لجميع المواطنين. كما أن الحل لا يكمن فقط في إنهاء العمليات العسكرية أو تغيير النظام السياسي، بل في إعادة صياغة مفهوم السلطة ودورها. السلطة التي تستمد شرعيتها من العنف لا يمكن أن تكون أساساً لدولة حديثة. الانتقال إلى مجتمع يقدس الحوار والتفاهم يحتاج إلى مشروع وطني جامع يضع حقوق الإنسان فوق المصالح الفئوية والسياسية.
إن سوريا، التي تحملت عقوداً من القمع وصراعات الدم، بحاجة إلى نهضة حقيقية تعيد لها مكانتها كدولة تنبذ العنف وتؤسس لمستقبل يستند إلى السلام والكرامة. كما أن الخروج من هذه الدوامة يتطلب جهوداً جماعية من كل مكونات الشعب السوري، حيث يصبح البناء المشترك وسيلة لترميم الهوية الوطنية وتحقيق العدالة التاريخية التي افتقدتها البلاد لعقود.