إبراهيم اليوسف
يعد تشكيل الحكومة المؤقتة من أعقد الخطوات التي تواجه أي نظام يسعى للتأسيس بعد سقوط سلطة استبدادية. هذه المهمة تفترض بناء مشروع وطني شامل، وليس تكرارًا للأنماط الأحادية التي تسقط الشعوب في فخاخ الدوغمائية والانعزال. وإذا كان الهدف حقًا هو خدمة سوريا، فإن الخيارات التي اتبعتها الحكومة المؤقتة تشوبها أخطاء استراتيجية عميقة، مهما كانت التسويغات، لأنها لم تتجه نحو بناء هوية وطنية جامعة تحترم التنوع وتُعلي قيم المواطنة على الولاءات الضيقة.
إخفاق في التمثيل والتنوع
لقد بدا جلياً في تشكيل الحكومة المؤقتة، أن الاعتماد على لون سياسي بل ديني واحد لا يخدم إلا مصالح ورؤى ضيقة، وهو ما يناقض جوهر بناء الدولة بعد” الثورة” التي بدأت في العام 2011 وحرفت بوصلتها، للأسف. إذ كان من المفترض أن تكون الحكومة انعكاسًا حقيقيًا للتنوع السوري الغني حقاً، وليس تكريسًا لتهميش الأطراف الأخرى. فلماذا، مثلًا، لم تُستدعَ خيرة الكوادر العلمية وأصحاب الخبرات من جميع المكونات السورية؟ أليس من المنطقي أن تضم الحكومة أساتذة جامعات، وخبراء اقتصاديين، وقادة إداريين كانوا على تماس مباشر مع مشكلات البلاد من دون أن يكونوا من أتباع النظام المتخيرين المخيرين؟ ألم يكن من الأجدر أن تُراعى خصوصيات المجتمع السوري بأن يُخصص مقعد لوزير أوقاف مسلم إلى جانب رجل دين مسيحي أو إيزيدي؟
أما تشكيل الجيش من فصائل دينية، بل راديكالية، فهو خطوة كارثية تهدد بتحويل الثورة من مشروع تحرري إلى نواة اقتتال طائفي. بل كيف يمكن تسويغ منح الرتب والقيادات لأشخاص غير سوريين في وقت تُرفع فيه شعارات طرد الأجانب الذين منحهم النظام السابق الجنسية وهو قرار راجح وصحيح؟
طبعاً، جميعنا يعلم أن نظام الأسد عرض عشرات الآلاف من الأبرياء للإعدامات في أسرهم في حماة- مثلاً- وهناك الكثيرون من رجال الدين من تمت تصفيتهم في السجون ناهيك عمن لاذ بالفرار خارج سوريا، ومر حوالي خمس وأربعين سنة على نفيهم في المغتربات والمهاجر، ودفنت أجيال منهم في مقابر بلا شواهد أو بشواهد في بلدان خليجية أو أوربية بعيداً عن مهادهم، من دون أن يرف لطغمة النظام أي جفن، ومن دون أن يكترث العالم بآلام ومكابدات هؤلاء وغيرهم من السوريين، تحت نيرالنظام!
إعادة إنتاج الظلم بألوان مختلفة
من المفارقات الكبرى أن يُطالَب الكرد بطرد “الغرباء” في الوقت الذي يهيمن فيه “غرباء آخرون” على مؤسسات الحكومة المؤقتة. هؤلاء الكرد، سواء كانوا من مهاباد، السليمانية، أو آمد، هم جزء من النسيج الكردي الذي لادولة له وقد قاوم الاحتلال الداعشي وقدم تضحيات عظيمة. أليس من العدل أن نتساءل: لماذا تخلو التشكيلات العسكرية من هؤلاء الذين ساهموا فعليًا في طرد التطرف؟ أن تكون الحكومة برئيس، وزراء، محافظين، ومديري دوائر من لون واحد، فإنها ترسل رسالة مقلقة للشعب السوري بأسره. هذه الرسالة تُكرّس الانقسام، وتغتال روح التفاؤل في مستقبل قائم على المساواة، ناهيك عن الرسائل التي تقدم للعالم بأسره؟!
الإسلام السياسي بين الاضطهاد والتوظيف
صحيح أن الإسلام السياسي تعرض لمحاربة طويلة الأمد منذ حادثة مدرسة المدفعية في 1979، إذ أن الواقع أظهر أن المساجد استُخدمت كأداة لتكريس السطوة الأمنية بدلًا من أن تكون منابر للوعي والدعوة الحقيقية. هذا التوظيف بات يتكرر الآن، ولكن في اتجاه معاكس، يُسخر الدين في تصفية الحسابات وتهميش الآخر، بدلًا من أن يكون عامل توحيد وتهذيب، فما بالنا بالصلاة الجماعية- الاستعراضية- في الجامعة التي لابد أن يكون فيها مصلى لأي طالب يصلي لا ان يصلى الطالب- ربما من دون وضوء- تحت حالة خوف من العيون الجديدة، ولربما القديمة الجديدة من الذين لديهم استعداد للعمل في- هيئة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر- بتسمية جديدة، وفق مقتضى الحال.
إن استمرار الحكومة المؤقتة في هذا النهج الأحادي سيُجهز على أي أثر للعلمانية والمدنية. ربما صمد الأذان ودرس الديانة تحت حكم الأسد- من دون أن يكون ذلك نتيجة مأثرة منه- لأنه في الحقيقة لم يتجرأ على منعه، حرصاً على كرسيه، لكن هذه الحكومة تُهدد الآن بالقضاء على كل ما هو جامع، وتؤسس لاستعادة إنتاج الاستبداد بأشكال أخرى، في ضوء ما نراه.
نحو حكومة لكل السوريين
الحكومة المؤقتة، مهما كانت محدودة في زمنها ومواردها، مسؤولة عن إرسال رسالة تطمئن السوريين جميعًا. الرسالة التي نحتاج إليها ليست مقاطع فيديو تهدد الكرد، العلويين، أو الدروز، بل خطاب يؤكد أن سوريا الجديدة ستكون وطنًا لجميع السوريين، وأن يكون لكل منهم: دوره ومكانه وحقوقه، بعيداً عن ذهنية ابتلاع الآخر، بدعوى ثنائية: الأكثرية والأقلية التي يشتغل عليها، في اتجاهين: صارخ متنكر لشريك المكان، ومخادع مسوف، وهوما كان الأسد الأب بارعاً في تأسيسه، كما راح يتبعه الابن مكرهاً كما ابيه، في أكثر من محطة، من دون تنفيذ أية نقطة من خطابه الماكر، على نحو ميداني!
الخيار الحقيقي يبدأ بالتخلي عن اللون الواحد، واحترام التنوع الذي يشكل سوريا. الوطن لا يُبنى على استبعاد مكوناته أو على حساب هويته الجامعة، بل بالاعتراف الكامل بحقوق الجميع في المشاركة، بصرف النظر عن الدين، العرق، أو التوجه السياسي.
هذه هي المهمة الكبرى التي تنتظر الحكومة المؤقتة، وكل فشل في تحقيقها ليس مجرد خطأ تكتيكي، بل خيانة للمبادئ التي قامت عليها الثورة.