بين أنقاض المدارس وخرافات الرايات: أين ذهب أطفال سوريا؟

خالد ابراهيم

منذ أربعة عشر عامًا، كان الأطفال السوريون يعيشون في مدارسهم، في بيوتهم، في أحلامهم. كان الحلم بالغد أقرب إليهم من أي شيء آخر. وكانوا يطمحون لمستقبل قد يحمل لهم الأمل في بناء وطنهم، سوريا، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من عزةٍ وكرامة. كان العلم هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يغير مجرى الحياة. لكن بعد ذلك، غيّرت الحرب كل شيء. فمع أول انفجار، سقطت أول مدرسة، وانقضت تلك الطموحات على وقع القذائف. اليوم، بعد أربعة عشر عامًا من الألم، لا يزال أطفال سوريا يتنقلون بين الخراب والحطام، لا مدارس، ولا تعليم، ولا أمل.

الأطفال الذين كانوا في يومٍ ما يجلسون على مقاعد الدراسة، يجدون أنفسهم اليوم ضائعين بين الأنقاض، لا يعرفون شيئًا عن مستقبلهم إلا أنه يُكتب لهم في دفاتر لا تحتوي على سوى أسئلةٍ محيرة: متى ستُفتح المدارس؟ ومتى سنعود للجلوس على مقاعد العلم؟ إذا كانوا لا يزالون يذكرون هذه الأيام، فقد سُرقت منهم القدرة على تخيل مستقبلٍ أفضل، بفضل سنوات من الحرب والتشريد، التي أخذت معهم كل شيء، حتى الأمل.

في الوقت الذي كان يُفترض أن يُفتح الباب للإصلاح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، جاءت الفرصة لدماء جديدة، لشعارات جديدة، من هيئات وتشكيلات تُعد نفسها بديلاً. اعتقد السوريون أن العزيمة ستتوجه نحو إعادة بناء بلدهم، نحو إحياء التعليم الذي غاب عنه قرابة عقد من الزمن. لكن ما كان يخشى منه الجميع، أصبح واقعًا مريرًا: الأزلام الذين تبعوا الجولاني، وزعوا أيديهم على مفاصل البلد، ليتحكموا في مستقبل سوريا عن طريق الجهل، تارةً بالرايات، وتارةً أخرى باستخدام الدين كأداة سياسية لسرقة مستقبل الأطفال.

في الأيام الأخيرة، انتشر فيديو صادم يوضح الصورة الحقيقية لما يحدث. في إحدى المدن السورية التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، تجمع أكثر من 250 طفلًا في ساحة عامة ليقرأوا القرآن الكريم. لا شك أن هذا المشهد كان مؤثرًا بشكلٍ ما، لكن الألم الكامن وراءه كان أقوى من أي مشهد عاطفي. هؤلاء الأطفال الذين كان يجب أن يكونوا في مدارسهم، يدرسون الرياضيات، والعلوم، واللغات، يدرسون كل ما يحتاجونه في حياتهم ليكونوا جزءًا من التغيير الذي يرغبون في رؤيته في وطنهم، وجدتهم هيئة تحرير الشام أمام شاشات تحفيظ القرآن.

لا مشكلة في حفظ القرآن الكريم، بل هو أمر عظيم إذا تحقق بالشكل السليم، ولكن هل كان هذا الهدف الوحيد؟ هل كان القرآن وحده كافيًا لتعليم أطفال سوريا المستقبل؟ أليس العلم أساسًا في بناء الأوطان؟ أليس من الغريب أن يُستبدل العلم بالتحفيظ؟ فماذا لو أُعطيت هذه العقول الصغيرة فرصة لتكون شيئًا أكبر من مجرد ألسن تحفظ الحروف؟ ماذا لو اُعطيت الفرصة لتبني علمًا ومهارات تفيد البلاد والعالم؟

الجولاني، الذي ارتدى عباءة القائد، وتبادل الأدوار مع من سبقه، لم يقم بتغيير حقيقة واحدة: تلك التي تقول أن المعركة الحقيقية هي معركة العقل.

على عكس ما كان يجب أن يحدث، وجدت سوريا نفسها في قبضة عقولٍ ضيقة. الجولاني وزع أزلامه أصحاب اللحى الذين يحملون أجنداتٍ واضحة، أكثرها تدميرًا هو التحكم بمصير الجيل القادم. هؤلاء “الأزلام” الذين قادهم الجولاني لم يقوموا ببناء مدارس، بل قاموا بتحويل الأيديولوجيا إلى سلاح، وسلاحهم هو غياب التعليم. أنشأوا مدارس تحفيظ للقرآن الكريم، لا بأس بذلك، لكنهم أهملوا تمامًا بناء المنظومة التعليمية الأساسية. هكذا صار الطفل السوري اليوم محاصرًا بين التربية الدينية المتطرفة التي لا تعطيه فرصة لفهم العالم من حوله، وبين عالم لا يعرف عنه شيئًا إلا أنه مليء بالخراب.

أليس هذا هو المأساة؟ أن يظل أطفال سوريا في دائرة مغلقة من الجهل، لا يعرفون سوى ما يفرضه عليهم الواقع القاسي. أصبحوا يتعلمون كيف يرددون كلمات مألوفة، بينما يحتاجون بشدة إلى أن يتعلموا كيف يواجهون تحديات الحياة. يحتاجون إلى تعلم كيفية قراءة المستقبل، وفهم التاريخ، وتغيير الحاضر الذي يعانون فيه.

ماذا بعد هذه السنوات الطويلة من المعاناة؟ هل نستمر في السماح للجولاني وأزلامه بأن يتحكموا بمصير أطفالنا؟

التعليم ليس رفاهية، إنه حق من حقوق الإنسان، لا يمكن لأي شعب أن يبني نفسه على الجهل.

إن إغفال التعليم اليوم يعني أن الجيل القادم سيكون ضحية جديدة لحروبٍ قد تكون أسوأ من الحرب الحالية. إنه يعني أن سوريا قد تتحول إلى دولة ميتة، غير قادرة على الخروج من دائرة الأزمات، لأن الأمة التي لا تزرع العلم، لا تحصد إلا الجهل.

في ظل هذه الأوضاع، يبقى السؤال الأكبر:

هل من الممكن أن نسمح بأن يُسرق أطفالنا مرتين؟ مرة حين سرق منهم نظام الأسد المستقبل، ومرة أخرى حين يُسرق منهم بحقوقهم الأساسية في التعليم؟

الأمل لا يزال موجودًا، ولكننا بحاجة إلى أن نكون أكثر قوة في مطالبتنا بحق التعليم، وأن نرفع أصواتنا ضد ما يحدث اليوم.

على كل سوري، على كل من يملك ضميرًا حيًا، أن يقف ضد هذا التجهيل. إن صمتنا اليوم هو الخيانة الكبرى، ليس فقط لأطفالنا، بل لوطننا بأسره. إذا أردنا أن نعيد بناء سوريا، يجب أن نبدأ من هنا، من تربية الأطفال وتعليمهم، لأنه ببساطة، الذين لا يتعلمون لا يمكنهم أن ينهضوا.

قد يظن البعض أن الحرب قد انتهت، لكن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد. المعركة من أجل الكرامة الإنسانية، والمعركة من أجل الإنسان السوري الذي يجب أن يحصل على حقه في التعليم، مهما كانت الظروف، وبغض النظر عن الرايات التي يرفعها أي أحد.

الوقت لا ينتظر. وكل لحظة تمر دون إصلاح حقيقي في هذا المجال، هي لحظة تُسرق فيها حياة طفل سوري جديد، يولد ليجد نفسه ضائعًا في عالمٍ لا يعترف به

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…