إبراهيم اليوسف
لقد مرّ ما ينيف على القرن على تقسيم كردستان وتشتيت شعبها بين أربع دول، في أعقاب اتفاقات وتقسيمات دولية همشت إرادة هذا الشعب وتجاهلت تاريخه وحقه في الحياة الكريمة على أرضه. ورغم اختلاف الأزمنة وتعاقب الأحداث، يظل واقع الكرد مزيجًا من الكفاح المرير ضد الاحتلال والقمع، يقابله إيغال في الشتات وتوزع جغرافي بين أراضٍ وأحلام لا تزال أسيرة سياسات دول تسعى بكل قوتها إلى منع قيام كردستان مستقلة، لطالما تآمر عليها العدو ومن كان يحسب في عداد الأصدقاء والأخوة. إذ إن الكرد- كشعب أصيل- تعود جذورهم إلى آلاف السنين، ويُعدون من الشعوب الكبرى التي ليس لها دولة تمثلها. يعيش هذا الشعب في منطقة تمتد على أجزاء من سوريا وتركيا والعراق وإيران، وهي المنطقة التي كانت تعرف تاريخيًا بكردستان. هنا، وُجد الكرد بديانتهم وثقافتهم ولغتهم وتقاليدهم الفريدة، إلا أنهم في ظل الاحتلال والانقسام أصبحوا محرومين من أبسط الحقوق، فالبعد الإنساني والاجتماعي يتعرض للتهميش، ما خلق واقعًا صعبًا قاسياً مريراً عانته أجيال متتالية.
وحقيقة إن سياسة القمع والتهميش ضد الكرد في كردستان وأطرافها أفضت إلى شتات كردي واسع، إذ هاجر- ولايزال- كثيرون إلى أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط، هربًا من البطش أو بحثًا عن فرص حياة كريمة. في هذا الشتات، بات الكرد يواجهون تحديات جديدة كخطر فقدان الهوية والانخراط في مجتمعات جديدة، ومع ذلك، فقد حافظ كثيرون منهم على روابطهم التاريخية وهويتهم الثقافية. ، ونجد أنه في المقابل، وعلى مدى التاريخ المعاصر لم تتوقف الثورات والانتفاضات الكردستانية، فقد خاض الكرد معارك كثيرة في محاولات لاستعادة حقوقهم المسلوبة، لكن تلك الثورات كانت تواجه دائمًا بتعاون دولي لاحتوائها وإجهاضها، وتعرضت لإجهاض متكرر بسبب التدخلات الخارجية، التي استخدمت الكرد كأداة لتحقيق مصالحها الخاصة.
الهجرة والنضال في الخارج
أجل، لقد كان للاضطهاد المستمر في كردستان أثره العميق في دفع الكرد للهجرة نحو مختلف أنحاء العالم، إلا أن هذه الهجرة لم تمنعهم من متابعة قضيتهم والضغط في المحافل الدولية من أجل حقوقهم. باتت الجاليات الكردية في الخارج جسراً يوصل صوتهم إلى العالم، ولعبت أدوارًا في توجيه الرأي العام وطرح قضيتهم أمام المؤسسات الحقوقية والإنسانية، لكنهم لا يزالون يواجهون تحديات تجعلهم بعيدين عن تحقيق استقلالهم.
المخططات الدولية والمصالح المتضاربة
التاريخ الحديث أثبت أن القوى الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة وروسيا، وقبل كل ذلك: بريطانيا، تنظر إلى كردستان من منطلق مصالحها الجيوسياسية. فكلما لاحت بوادر دعم للكرد في الحصول على حكم ذاتي أو حقوق سياسية، يتبدد هذا الدعم حين تتغير معطيات المصالح الإقليمية. فهذه القوى كثيرًا ما تتلاعب بالقضية الكردية كأداة في لعبة التوازنات والتحالفات الدولية، ما أسفر عن خيبات متتالية للكرد، الذين وجدوا أنفسهم في مواقف يصعب عليهم فيها الحصول على دعم دولي مستمر.
الخيانات الداخلية والتحديات الكردية الذاتية
ورغم تعقيدات الوضع الدولي، إلا أن القضية الكردية تعاني كذلك من تحديات داخلية مرتبطة بعدم تماسك الصف الكردي، ووقوع بعض الزعامات في فخ المصالح الشخصية أو التنافس الداخلي. أجل، إن الخيانات الداخلية- بتدرجاتها وأشكالها- أضعفت القوة الكردية ومنحت خصوم الكرد فرصاً إضافية لاستغلال نقاط الضعف، كما أن غياب مشروع موحد قادر على جمع الشتات والتوجه نحو تحقيق الهدف قد ساهم في تعقيد الأمور وجعل القضية الكردية أكثر هشاشة أمام ضغوط الخارج.
مجددا: هل ستكون هناك كردستان حقاً؟
الحديث عن كردستان مستقلة لا يزال حلماً يستعصي على التحقق، رغم كل الكوابح والموانع بأشكالها المتعددة، لكن الرغبة الشعبية العارمة والإصرار المستمر يعكسان أن هذا الحلم ليس مستحيلاً. في ظل المعاناة والتجاهل لحقوق الكرد، فقد تجد الدول الكبرى نفسها أمام خيار تقديم حل واقعي للقضية الكردية لتجنب نزاعات مستمرة. مستقبل كردستان مرتبط بمدى قدرة الكرد أنفسهم على تحقيق تماسك داخلي وتبني استراتيجيات واقعية تتماشى مع المتغيرات الدولية، وإنشاء علاقات دبلوماسية سليمة، إضافة إلى الضغط المتواصل عبر الشتات وعبر المؤسسات الدولية.
الشعوب المتعايشة مع الكرد لماذا ترفض منحهم حقوقهم الطبيعية؟
إن إحدى كبريات القضايا التي تثير تتعلق برفض أنظمة الشعوب المجاورة للكرد – العرب، الفرس، والترك – منح الكرد حقوقهم رغم تشاركهم الأرض والتاريخ والجوار. الكرد يعيشون منذ قرون طويلة جنبًا إلى جنب مع هذه الشعوب، لكن ثمة قوى سياسية تستغل التخوف من استقلال الكرد وتصور أية مطالبة كردية بحقوقها كخطر يهدد وحدة الدول. فهذه الأنظمة تسعى باستمرار إلى إبقاء الكرد تحت السيطرة من خلال قوانين تمييزية وسياسات تهميشية تتعامل معهم كتهديد.
من الملاحظ أيضًا أن هذه الدول تبدي موقفًا متحفظًا كلما لوح أحد الأطراف الدولية بدعم حقوق الكرد. فبينما تظهر الدول الكبرى أحيانًا كداعمة لحقوق الكرد، ترى تركيا أو إيران مثلاً أن أي خطوة في هذا الاتجاه تهدد مصالحها، وتعتبر ذلك تجاوزاً لما تصفه بوحدتها الوطنية، وتستثمر في هذا التوجه لمواصلة إحكام قبضتها على الكرد.
لكن، إذا كانت هذه الدول العربية والفارسية والتركية ترفض الاعتراف بحقوق الكرد، فلماذا إذن تمنع الآخرين من التوسط أو مد يد العون للكرد؟ السبب يعود إلى قلق هذه الدول من استغلال الأطراف الدولية للكرد كحليف استراتيجي في المنطقة، إذ يخشون من تحول كردستان إلى دولة ذات نفوذ أو حليف قوي للغرب.
إلا أنه رغم القمع والمعاناة المستمرة، يبقى الشعب الكردي مستمرًا في نضاله من أجل الحصول على حقوقه. بيد أن السؤال حول استقلال كردستان سيظل قائمًا مادام هناك طموح كردي وإصرار على استعادة الهوية، لأن التحدي الأكبر الآن ليس فقط في مواجهة القوى الخارجية والدول المجاورة، بل في تحقيق وحدة داخلية واستراتيجيات تخدم المصالح الكردية، من دون الوقوع في فخاخ التبعية أو النزاعات الداخلية. إذا نجح الكرد في تجاوز هذه العقبات، قد يشهد العالم يومًا استقلال كردستان، وتحقيق حلم كان قد بدأ منذ مئة عام، لاسيما وأننا نسمع ونقرأ ما يشبه بشائر خير، آملين ألا تكون محض أحلام فحسب، لطالما أن دواعي التفاؤل تستند إلى أمرين هما: استحقاقات القضية الكردية ومآلات الواقع ضمن خريطة المشهد السياسي على المستويين الدولي والشرق أوسطي!