عبدالرحمن كلو
يبدو أن هذا الحدث قد تجاوز كونه مجرد عملية عسكرية أو هجوماً تقليدياً في نطاق دوامة الصراع النمطية بين الـ PKK وتركيا، ففي الجانب المعنوي حمل بُعداً نوعياً مختلفاً تجسّد في استهداف أحد أهم رموز الصناعة العسكرية التركية. أما الجانب الآخر لهذا الهجوم، فيكشف عن حضور إيراني شريك للدولة التركية في مفاصل قرارات هذا التنظيم، فالرابطة المشتركة والمتداخلة هذه أسستها التفاهمات التاريخية والاستراتيجية المشتركة في إنهاء القضية الكردية بشقها السياسي.
وفي تطور درامي موازٍ، لم يتأخر الـ PKK في تبني الهجوم بشكل رسمي كإشارة صريحة وردّ مباشر على التسريبات المتعلقة بالاتفاق بين الحكومة التركية وزعيم الحزب عبد الله أوجلان، والذي يهدف إلى إنهاء وجود PKK بصيغته الحالية وإعادة تدويره بما يتناسب مع المتغيرات الجديدة التي تجتاح سوريا والمنطقة بشكل عام، خاصةً بعد الخسائر التي مُني بها حلفاء إيران في المنطقة مثل حزب الله والقوى المتحالفة معه.
الدولة العميقة في تركيا، والتي تعد بمثابة الحكومة غير المعلنة والمتحكمة في السياسات الجوهرية للدولة، تسعى لاستثمار نتائج الصراع الإسرائيلي الإيراني في المنطقة وسوريا والدخول في لعبة اتفاق مع أوجلان. ويبدو أن الاتفاق يأتي لوضع حدٍ للنزاع الدائر منذ عقود، لكنه في جوهره هو انتقال نوعي نحو إستراتيجية “الميثاق الملّي” التركي، الذي وضعه مصطفى كمال أتاتورك عام 1920. هذا الميثاق ينظر إلى بعض المناطق في شمال سوريا وكأنها جزء من الأراضي التركية التي ينبغي استعادتها، أو على الأقل السيطرة عليها. ومن هنا، يتضح أن الدولة العميقة تستهدف عبر هذه الاستراتيجية إحداث تمددٍ نوعي على حساب المشاريع الإقليمية والدولية القائمة، وتحديداً المشروعين الأمريكي والإيراني. في ظل هذا المشهد، يبدو أن حزب العمال الكردستاني قد أُريد له أن يلعب دوراً مرحلياً في تنفيذ طموحات تركيا، خاصة بعد أن بات إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا أمراً حتمياً في عين الدولة التركية بحسب مجريات الحرب في لبنان والهجمات المتبادلة بين الطرفين. وهذا الطموح يأتي ضمن إطار سعيها لإحكام قبضتها على مناطق النفوذ التي كانت تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
لكن تركيبة حزب العمال الكردستاني (PKK) المعقدة تشكل تحدياً حقيقياً، إذ إنه كيان مركب يتداخل فيه دور وأجندات عدة دول مجاورة. هذه الدول، التي يمتد تأثيرها إلى داخل التنظيم، تستغل هيكليته لتوجيه سياساته بما يخدم مصالحها في الصراع الإقليمي المعقد. ومن هنا، فإن عملية إعادة هيكلة PKK أو تحويله إلى شكلٍ جديد يتماشى مع المصالح التركية تواجه عقبات كبرى، إذ إن للتنظيم علاقات مترابطة مع شبكات استخباراتية وعسكرية تمتد عبر تركيا، سوريا، العراق، وإيران.
وفي هذا السياق، يحتفظ “محور المقاومة” المدعوم من إيران بصلات وثيقة داخل PKK، عبر شخصيات نافذة ومؤثرة مثل جميل بايك. تمتلك هذه الأطراف أدوات قوية قد تمكنها من إعاقة أي تحرك تركي لإعادة تشكيل التنظيم بما يخدم رؤيتها. بعبارة أخرى، يمكن القول إن إيران وحلفاءها في المنطقة يمتلكون نفوذاً داخل PKK يمكنهم من عرقلة هذه المخططات، وإيقاف المساعي التركية لإعادة تدوير الحزب بما يتوافق مع استراتيجياتها.
النقطة الأهم هنا تكمن في التعقيد البنيوي للتنظيم، إذ إن فصل العناصر الاستخباراتية الأجنبية من تركيبة PKK لن يكون بمثابة عملية بسيطة، بل على العكس، سيكون عملية مؤلمة ودموية قد تنعكس على الوضع الأمني والمعيشي للمناطق التي يتمتع فيها التنظيم بنفوذ قوي. عملية دمج عناصر من استخبارات عدة دول في هيكلية الحزب تمت عبر عقود طويلة، وجاءت على قاعدة مشتركة تتمثل في معارضة المشاريع الكردية السياسية في المنطقة. من هنا، فإن فك هذه الروابط الاستخباراتية وإعادة تنظيم الحزب بما يتماشى مع رؤية الدولة التركية سيكون مهمة شاقة، وقد يحمل آثاراً سلبية على مناطق النفوذ الكردية التي يعتمد التنظيم على تجنيد شبابه منها.
من الواضح أن الدولة العميقة في تركيا تراهن على تنفيذ هذه الخطوة الحاسمة بهدف إنهاء الجانب السياسي للحركة الكردية وتفكيك بنيانها والسير بخطى متسارعة نحو جغرافية الميثاق الملّي مقابل حياة أوجلان. هذا المشروع، إن تحقق، سيكون انتصاراً كبيراً لتركيا، ولكنه من جهة أخرى قد يفتح الباب أمام سيناريوهات دامية، خصوصاً إذا اصطدم بالمشروع الأمريكي في شرقي الفرات أو إذا ما واجه المشروع ممانعة إيرانية وسورية من خلال أدواتها من داخل الـ PKK.
بكل الحالات، الهجوم على “توساش” يبدو كرسالة واضحة من التيار الإيراني في الـ PKK تفيد بأن التنظيم يرفض أي محاولات لإعادة تشكيله على النحو الذي تريده تركيا. كما أنه يعتبر استعراضاً لقوة التنظيم وقدرته على الوصول إلى عمق الدولة التركية، حتى في ظل التشديدات الأمنية المحيطة بأهم مراكزها الاستراتيجية. من خلال هذا الهجوم، يُظهر PKK أن قدرته على المقاومة لا تزال قوية، وأن أي اتفاق بين الحكومة التركية وأوجلان لا يمثل رؤية جميع قيادات الحزب ولا ينعكس بالضرورة على رغبات عناصره المنتشرين عبر الحدود.
وفي ختام هذه القراءة، يبدو أن الوضع القائم يتسم بالغموض والتشابك، حيث يتداخل فيه ما هو سياسي بما هو عسكري وأمني. تركيا تسعى إلى فرض رؤيتها للمنطقة عبر تقليص دور إيران وحلفائها، وإعادة هيكلة PKK بما يضمن تحقيق أهدافها التوسعية، لكن نجاح هذه الخطة يتطلب إضعاف النفوذ الإيراني داخل الحزب وتفكيك الروابط المعقدة التي تشكلت بينه وبين عدة دول مجاورة. ومن جهته، تيار الحرس الثوري في الـ PKK يبدو مصمماً على الدفاع عن خطه المتحالف مع دولة ولاية الفقيه، وربما الأشهر القليلة القادمة سوف تشهد مواجهات دموية أشد وأعنف في ظل هذا الصراع المتعدد الأبعاد، الذي يشمل إلى جانب تركيا وإيران، قوى دولية كبرى تتصارع على النفوذ في الشرق الأوسط.