الموقف من الحقيقة

ابراهيم البليهي

 

من أهم ما يميز العلوم الحديثة عن الأنساق الثقافية المتوارثة أنها لا تبدأ بالوثوق وإنما تبدأ بالشك والاعتراف بالجهل الذي يستوجب الاستقصاء وحتى بعد أن تتوصل البحوث والدراسات إلى نتائج إيجابية فإن هذه النتائج تُستخدم لأنها توفر وثوقًا نسبيًّا يتيح الأخذ بها عمليا إلى أن تطرأ أسباب تثير الشك وتستوجب المراجعة وإعادة الاستقصاء فالأصل أن العلم حتى في أدق منجزاته لا يدعي امتلاك الحقيقة الأبدية المطلقة وإنما أقصى ما يدعيه العلم هو الاقتراب النسبي مما يمكن اعتباره معرفة موضوعية موثوقة ما دامت صامدة للنقد يتم الأخذ بها إلى أن يظهر ما يناقضها أو يثير الشكوك الجدية حولها …

إن تبجيل الحقيقة الموضوعية المحضة والاهتمام بالتحقق هو من أعظم وظائف العقل وهو أهم إنجازات الفكر الفلسفي والعلوم الحديثة ….

لكن العلم ذاته قد أكَّد بأنه لا يمكن الوثوق المطلق بامتلاك الحقيقة المطلقة في أي مجال وإنما ينحصر مسعى العلوم في محاولة الاقتراب مما يسعون إلى التحقق منه وإبقاء المجال مفتوحًا للمراجعة الدائمة وإخضاع ما تم التوَصُّل إليه للمراجعة والاستقصاء والتمحيص واستخدام كل وسائل التحقق ……

كان الفيلسوف العظيم ديفيد هيوم هو أول فيلسوف في العصر الحديث يثير الشك العميق حول ما يدعيه الناس من حقائق ….

وفي القرن العشرين انبرى فيلسوف العلم كارل بوبر في تقويض الكثير من الدعاوى واعتبر نتائج الاستقراء مجرد وسيلة تساعد على مواصلة الحياة والعمل لكنها لا تدل على التحقق ……

لذلك فإن كارل بوبر قد استبعد الاستقراء كمعيار للتحقق لأن التحقق المطلق في نظره محال وأضاف إليه معيار الدحض والتفنيد فما يتم التوصل إليه بالملاحظة والتجريب والاستقصاء والاستقراء يجب أن يخضع للتفنيد والدحض ويتم التعامل مع التنائج كوسيلة للعمل ما دامت صامدة للتفنيد فالمعرفة البشرية في نظره تظل معرفة تخمينية …….

وبذلك ندرك السذاجة العميقة لدى الذين يتوهمون بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة التي يتوهمون أنها ناصعة وشديدة الوضوح ويبنون حياتهم وعلاقاتهم وسلوكهم وآراءهم ومواقفهم من الحياة والأحياء على هذا الوهم المستحكم …….

إن كتاب (سبب الأشياء) للدكتور بيتر رابينس هو أحد الكتب المهمة في هذا المجال وفيه يقول:

(( إن التوكد عملٌ أحمق)) أما المعضلة فتنشأ عن أن طبيعة العقل البشري عمومًا أنه يثق وثوقًا مطلقًا بما يصل إليه أوَّلا وخصوصا أنه يتطبَّع في طفولته بالسائد فيصير هذا التطبع بمثابة حقائق مطلقة غير قابلة للنقاش ……..

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…