المتسلقون… عُشّاق النفوذ بأقنعة المودّة

صلاح عمر

 

ثمة وجوه تراها حولك لا تشبه نفسها، تبتسم بقدر ما تقترب من الضوء، وتتجهم حين تبتعد عنه. وجوهٌ لا تعرف لها ملامح ثابتة، تتشكل وفقًا لدرجة النفوذ الذي تقترب منه، وتتلون بلون الكرسي الذي تطمح أن تجلس بقربه.

هؤلاء هم “المتسلقون”… لا يزرعون وردًا في القلوب، بل ينثرون شوك الطمع على دروب المصالح. لا تعرفهم في البدايات، لأنهم يتقنون فن التنكر، يأتونك بثوب الأصدقاء، بكلمات دافئة، وبنظرات مليئة بالاهتمام. يُظهرون محبة، ويتظاهرون بالحرص، فيبدون كأوفياء لا يُبدَّل بهم غيرهم. لكنّهم في الحقيقة لا يرونك، بل يرون ظلك، وحجم بريقك، ومقدار نفوذك.

ينظرون إلى السلطة كما ينظر العاشق إلى وجه معشوقته، يلمحونها من بعيد، فيهرولون نحوها، يركضون في مسارات التودد، يمدّون أياديهم لا ليصافحوا، بل ليتسلقوا. كلماتهم محشوّة بالعسل، ولكن قلوبهم متخمة بالدهاء. يظهرون الاحترام، لكن في دواخلهم موازين لا تُقاس بها القيم، بل تُقاس بها المنافع.

هم لا يقتربون منك لذاتك، بل لما تحمله، لما تمثّله، لما يمكن أن تفتح لهم من أبواب. يسيرون خلفك ما دمت في الضوء، وما إن يخفت نورك، حتى تراهم ينقلبون… يغيّرون مواقعهم، ويتجهون صوب ضوءٍ جديد، يُعيد تدوير أحلامهم الأنانية.

وكم من عظيمٍ ظن أنه محاط بالأوفياء، فاكتشف بعد فوات الأوان أنه لم يكن في حضرة المحبين، بل في مجلس الطامعين. وكم من قائدٍ منح قلبه لمن حوله، فخذلوه عند أول اختبار، لأن الحب الذي بنوه لم يكن حبًا له، بل حُبًا لما يملك، لما يمنح، لما يُقرّب.

هؤلاء لا يعرفون معنى الولاء، ولا طعم الوفاء. ولاؤهم مؤقت، مرتبط بالامتيازات، ووفاؤهم مشروط بفتات المكاسب. فإذا انقطعت المصالح، جفّ الحبر الذي كُتبت به صداقتهم. يهاجرون كما تهاجر الطيور الموسمية، لا يعترفون بفصل ثابت، ولا يثبتون في أرضٍ لا تُنبت لهم مكسبًا.

الحذر كل الحذر من أولئك الذين يكثرون من المديح، ويقلّون من الفعل. من الذين يأتونك إذا ارتفعت، ويختفون إذا تعثرت. أولئك الذين يعطرون مجالسك بأجمل الكلمات، بينما يُعدّون خلف الستار حبال الصعود على ظهرك. هم كظلٍ ثقيلٍ لا يظهر إلا في وهج النجاح، ويغيب عنك في عتمة السقوط.

وما الحياة إلا مدرسة، وما الأيام إلا معلمة قاسية، تضعك في التجربة لتكشف لك الوجوه، وتفرز بين من أحبك لأنك أنت، ومن أحبك لأنك تملك. وبين من رآك إنسانًا، ومن رآك سُلّمًا.

فليكن وعيك حارسًا، وحدسك دليلًا، وقلبك حكيمًا.

ولا تنخدع بالأقنعة البراقة… فكم من ابتسامة خادعة كانت سيفًا في غمد التودد، وكم من صمتٍ صادقٍ كان أصدق من ألف مديحٍ زائف.

لا تكن ساذجًا في مملكة النفوذ… فالمتسلقون كُثر، وأصحاب الوجوه الحقيقية… نادرون.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
عبدالباقي جتو
عبدالباقي جتو
5 شهور

مقال قيّم ذات مستوى رفيع من التشخيص، يعكس واقع الكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية في مجتمعاتنا، شكراً للكاتب.

اقرأ أيضاً ...

منظمة حقوق الإنسان في عفرين أستُقبل وزير الثقافة في الحكومة الإنتقالية السورية محمد ياسين صالح و الوفد المرافق له في مدينة عفرين ، على أنغام الزرنة و الطبل من قبل أبناء المنطقة إلى جانب بعض من المواطنين العرب القاطنين منذ سنوات في المدينة ، وسط غياب أغلب رؤوساء البلديات و أعضاء منظمات و نشطاء المجتمع المدني و الأكاديميين الكُرد ،…

عزالدين ملا شهدت سوريا خلال العقد الماضي تحولات عميقة قلبت معالم المشهد السياسي والاجتماعي فيها رأساً على عقب، وأدت إلى تفكك بنية الدولة وفقدانها السيطرة على أجزاء واسعة من أراضيها. بعد سقوط النظام الذي حكم البلاد لعقود، توقّع الكثيرون بداية عهد جديد يعمه السلام والاستقرار، لكن سوريا دخلت في دوامة أعمق من الصراع، إذ تعقّدت الأزمة بشكل لم يسبق له…

عبدالرحمن كلو لم يكن مؤتمر قامشلو مجرّد لقاء عابر بين طرفين متخاصمين في الساحة الكوردية، بل كان خطوة نوعية تُلامس أفقًا سياسيًا أوسع بكثير من مجرد “اتفاق ثنائي”. فبرعاية أمريكية وفرنسية، وبإشراف مباشر من الرئيس مسعود البارزاني، تمكّن المؤتمر من جمع طيف متنوع من القوى، لا يقتصر على المجلس الوطني الكوردي أو الإدارة الذاتية، بل شمل شخصيات وطنية مستقلة،…

هولير (ولاتي مه) شفيق جانكير: بمناسبة مرور عشرين عاما على انطلاقة موقع “ولاتي مه”، جرى في كافتيريا “أريزونا” بهولير (أربيل) تكريم الباحث والمحلل السياسي الأستاذ عماد باجلان. وجاء هذا التكريم تقديرا لدور باجلان البارز في الساحة الإعلامية والسياسية، وجهوده المتواصلة في الدفاع عن الحقوق والقضايا العادلة للشعب الكردي، ووقوفه في مواجهة الأصوات الشوفينية والعنصرية التي تحاول إنكار حقوق الكورد أو…