عدنان بدرالدين
في 13 فبراير 2025، أعلن الحكام الجدد في سوريا عن تشكيل اللجنة التحضيرية للحوار الوطني السوري ، التي يُفترض أن تشرف على عملية انتقال البلاد من نظام شمولي مستبد إلى نظام ديمقراطي مستقر. ورغم تأكيد القيادة الجديدة، التي تولّت الحكم منذ 8 ديسمبر 2024، مرارًا على توجهاتها الوطنية وحرصها على أن تسمو سياساتها وبرامجها فوق الانقسامات العرقية والدينية والطائفية، فإن تركيبة اللجنة وأهدافها المعلنة تثيران شكوكًا عميقة حول مدى تمثيلها لأطياف المجتمع السوري التي عانت طويلًا من القمع والتهميش في ظل النظام السابق. كما أن طبيعة تشكيلتها وانحيازها الطائفي الواضح قد يؤدي إلى إشعال صراع جديد.
تشكيلة اللجنة: غياب التعددية وانحياز واضح
وعلى خلاف التوقعات، تتألف اللجنة التحضيرية من سبعة أعضاء، ينتمي ستة منهم إلى الأغلبية العربية السنية، من بينهم أربعة مرتبطون بـ”هيئة تحرير الشام”، فيما يُرجَّح أن كُلًّا من حسن الدغيم وهدى الأتاسي لهما صلات تنظيمية، أو على الأقل توجهات فكرية قريبة من جماعة الإخوان المسلمين. أما العضو المسيحي الوحيد في اللجنة، هند قبوات، فيبدو أن دورها رمزي إلى حد كبير، يهدف إلى طمأنة الغرب بشأن حريات المسيحيين.
والأمر اللافت أن اللجنة لا تضم أي ممثلين عن المكونات الرئيسية الأخرى للبلاد، التي تشكّل مجتمعةً أكثر من ثلث مجموع سكان سوريا، مثل الكرد، والعلويين، والدروز، والإسماعيليين، والتركمان. هذا يعزز المخاوف من أن الهدف الحقيقي من تشكيل اللجنة ليس تحقيق المصالحة الوطنية وإعادة توحيد البلد وفق أسس ديمقراطية عادلة، بل محاولة لإعادة إنتاج الدولة المركزية القديمة تحت هيمنة عربية سنية، رغم أن هذه الطائفة الكريمة ليست متجانسة فكريًا وسياسيًا بحيث يدّعي فصيل واحد تمثيلها، ناهيك عن أن يكون ذلك الفصيل هو “هيئة تحرير الشام”.
إقصاء ممنهج: عواقب وخيمة على وحدة البلاد
من الواضح أن هذا النهج الإقصائي، الذي يبدو أنه يسعى إلى تهميش جزء كبير من مكونات الشعب السوري تحت شعارات وطنية مفترضة “متعالية” على الانقسامات الإثنية والدينية، ليست سوى وهمٍ تم تكريسه عبر دعاية ممنهجة تشبّعت بها أجيال من السوريين وفندتها سنوات الحرب الأهلية السورية التي إستمرت لأكثر من عقد. إن محاولة إعادة إنتاج النظام المركزي في سوريا بحلّة جديدة، باعتباره هذه المرة “تجسيدًا لإرادة الأغلبية”، ستصطدم حتمًا بمقاومة من جانب المكونات التي قد تجد نفسها مهمّشة.
على رأس هذه المكونات يأتي الكرد، الذين باتوا بعد سقوط نظام بشارالأسد رقمًا يصعب تجاوزه. كما أن سكان الساحل، الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للنظام المنهار، لن يتخلوا بسهولة عن نفوذهم لصالح نظام يهمّشهم. الأمر ذاته ينطبق على دروز سوريا، الذين طالما أبدوا تمسكًا يُثير الإعجاب بتميزهم وحرصهم على تسيير شؤونهم بأنفسهم. هذه المكونات، وربما غيرها، قد ترفض أي إعادة هيكلة غير متوازنة للسلطة.
النهج الإقصائي ومخاطر التصعيد
المسار الإشكالي الذي يبدو أن قيادة أحمد الشرع مصرّة على سلوكه، بدلًا من تحقيق عملية انتقال سلسة إلى الديمقراطية والاستقرار، قد يشكّل، في أسوأ الأحوال، مقدمةً لصراع جديد، ربما يكون أكثر حدة وتعقيدًا من الحرب الأهلية المدمرة التي شهدتها سوريا خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية.
إن الإصرار على الإستئثار بالسلطة ، وحرمان المكونات السورية من حقوقها ومصادرة دورها في بناء الدولة الجديدة التي هي الآن قيد التشكّل، قد يدفع هذه المكونات إلى إنشاء مؤسساتها المحلية بمعزل عن هيمنة السلطات المركزية. كما قد تعمل بعض هذه المكونات على ترميم وتحسين ما هو قائم منها، وتعزيز أدائها من خلال توسيع دائرة المشاركة الشعبية وإشاعة الديمقراطية فيها، وتقديم نماذج حوكمة ديمقراطية وحداثية متقدمة قد تربك مخططات القيادة السورية الجديدة أو تصطدم معها.
دور المجتمع الدولي: ضغوط غير مضمونة النتائج
هناك، بالطبع، احتمال أن تلجأ القوى الدولية، التي ما فتئت تكرّر مطالبتها السلطات الجديدة في دمشق بتوسيع نطاق المشاركة الشعبية في صناعة القرار، إلى زيادة الضغوط عليها بهدف تقديم ضمانات تكفل حقوق الأقليات والمرأة، مع إثبات وجود نية صادقة في محاربة الإرهاب. ولكن، في ظل غياب آليات إنفاذ محددة، قد تبقى هذه الجهود غير مجدية.
أما إذا استمرت القيادة السورية المؤقتة في اتباع نهجها الإقصائي، فإن احتمالات الصدام مع طموحات الأقليات ومشاريعها المحلية قد تتخذ أبعادًا عنيفة يصعب التحكم بها أو احتواؤها.
الاستراتيجية الكردية: ضرورة المواجهة السياسية والدبلوماسية
كرديًا، ولمواجهة إقصاءهم عن عملية بناء سوريا المستقبلية، هناك حاجة ملحّة إلى تبنّي استراتيجية واضحة المعالم، تجمع بين الجهود السياسية والدبلوماسية والجماهيرية لضمان حقوق الشعب الكردي في إطار سوريا ديمقراطية تعددية موحدة.
أولًا، يجب رفض التركيبة الحالية لمؤتمر الحوار الوطني، والدعوة إلى إشراك الكرد والمكونات الأخرى بما يتواءم مع مستلزمات الشراكة الوطنية الحقيقية. كما أنه من المهم، بصورة عاجلة، وضع حدٍّ للتشرذم في الساحة السياسية الكردية، من خلال عقد مؤتمر وطني كردي شامل تحت رعاية أمريكية وفرنسية، أو أممية إن أمكن، تنبثق عنه هيئة كردية جامعة تمثل الكرد أمام شركائهم في الوطن وعلى الصعيد الدولي.
إضافةً إلى ذلك، لا بدّ من المبادرة إلى تشكيل وفود دبلوماسية كردية موحدة لعرض الهموم والآمال الكردية أمام العالم، واللجوء إلى الفعاليات الجماهيرية السلمية داخل الوطن وخارجه، خصوصًا في الدول الأوروبية التي تحتضن جاليات كردية ضخمة، لإيصال صوت الشعب الكردي إلى الرأي العام العالمي. ومن المهم هنا إشراك المكونات الأخرى، من العرب والسريان والآشوريين والأرمن، في جميع النشاطات والفعاليات المذكورة، لتعزيز الخطاب الديمقراطي وترسيخ مفهوم التعددية الحقيقية.
خطر تفكك سوريا بدلًا من وحدتها
من المهم أن نشير، في الختام، إلى أن اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، بتركيبتها الحالية وما ترشح عن تصريحات بعض أعضائها حول ألية دعوة المشاركين، والأهداف المتوخاة من عقده، قد تؤدي إلى نتائج عكسية تمامًا لما هو مأمول منها. فبدلًا من المساهمة في إعادة الوحدة إلى البلد، الذي هو في الواقع مقسم فعليًا، قد تسرّع عملية تفكك سوريا وتغذي دوائر عنف جديدة وخطيرة.
إن بناء سوريا ديمقراطية تعددية موحدة يتطلب نهجًا شاملًا، وتمثيلًا عادلًا ومشاركة لجميع مكونات البلاد في عملية صياغة مستقبلها، بالإضافة إلى خطابٍ – والأهم من ذلك – ممارسةٍ غير طائفية. خلاف ذلك، قد يُسجَّل تشكيل لجنة الحوار الوطني السوري في التاريخ، ليس كخطوة نحو إقامة مجتمع عادل يسوده السلام، بل كفصل جديد من الاضطرابات وانعدام الاستقرار في بلد يصبو إلى الوحدة والسلام والإزدهار في مواجهة تحديات عاصفة.