حيدر عمر
(هذه المقالة نشرتها قبل ما يزيد عن سنتين، أرى أنها مازالت على تماس بأحداث اليوم. أعيد نشرها بعد أن أضفت إليها فقرتين حول ما يحدث اليوم في سوريا).
الكراهية ليست نتاج اليوم أو الأمس القريب، بل يمكن القول إنها وُجدت منذ قَتْل هابيل، إذ دفعت قابيل إلى ارتكاب جريمته، واستمرَّت مع الإنسان في كل العصور، تصطبغ بأهواء الأنظمة المستبدة المنتجة الرئيسة للكراهية، وفق المبدأ الميكيافيلي. وعلى الرغم من قِدَم خطاب الكراهية، ليس له تعريف دقيق ومتفق عليه. ولهذا يمكنني القول إن هذا الخطاب تعبير علنيّ ينبذ الآخر فرداً كان أم مجتمعاً، بسبب العرق والأصل الإثنيّ أو الإعاقة أو الدِّين أو الاعتقاد. إلا أنه لم يعد شعوراً فردياً يدفع صاحبه إلى معاداة الآخرين، بل اتخذته بعض الأنظمة الدينية والسياسية خطاباً مؤدلجاً لتأجيج مشاعر الحقد والكره والبغضاء للتمييز والتفريق على أسس عنصرية دينية ومذهبية أو قومية، أو حتى عائلية. ألم تبدأ الفتنة الكبرى في الإسلام مع بداية تولِّي الخليفة عثمان بن عفان الخلافة، إذ قام بتولية ذوي قرباه في المناصب العليا في الولايات، رغم عدم كفاءة بعضهم؟ ثم ما حدث بعد قتله من خلاف بين علي ومعاوية، أدى إلى انقسام المسلمين بينهما وإلى موقعتي الجمل وصفين، اللتين قُتِل فيهما الآلاف من الطرفين المسلمَين، وتعاظمَ شعور الكراهية بعدهما، وخاصة بعد مقتل عليٍّ، فصار المسلمون شيعة وسُنَّة يكرهون بعضهم بعضاً، ولم يكتف الفريقان بذلك، بل صار كل منهما يكفِّر الآخر.
واستمرَّ هذا التباغض والكراهية طيلة الحكم الأموي والعباسي أيضاً، واتخذ شكلاً عنصرياً، استهدف الكورد خاصة منذ تولِّي أبي جعفر المنصور الخلافة بعد أخيه، فغدر بأبي مسلم الخراساني الكوردي، رغم أنه كان باني الدولة العباسية. وقد قال فيه أحد شعراء البلاط العباسي معرباً عن كرهه ليس أبا مسلم فحسب، بل عمَّمه على الكورد أجمعين، على شعب كامل يدين ما يزيد على تسعين في المائة منه بالإسلام:
أفي دولة المنصور حاولتَ غَدْرةً؟ ألا إنّ أهل الغـدر آباؤك الكُرد.
وتجسَّدت الكراهية العباسية للكورد في أبشع صورها وأفعالها من خلال تنكيل هارون الرشيد بأسرة البرامكة تنكيلاً لم يعرف التاريخ له مثيلاً، إذ أباد تلك الأسرة كاملة، رغم أن أبناءها، خالد البرمكي وابنه يحيى وحفيديه الفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى كانوا أكثر قادة الدولة إخلاصاً، وأن هارون الرشيد تربَّى على يدَيْ يحيى، الذي أقنع الخليفة الهادي بعدم خلع أخيه هارون الرشيد من ولاية العهد، وجعْلها لابنه الصغير جعفر.
لم تقتصر الكراهية على الطبقات الحاكمة، بل اتخذت منحىً فكرياً تحريضياً تجلَّى في كتب بعض المؤلفين القدامى مستغلين الدين في ذلك، فقوَّلوا نبي الإسلام ما يغذي هذه النزعة تجاه الكورد، حتى أصبحت ما يمكن تسميته بثقافة الكراهية. فقد روى الكليني في الجزء الخامس من كتابه (الوافي) “عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، فقلت: إن عندنا قوماً من الأكراد، و إنهم لا يزالون يجيئون بالبيع، فنخالطهم و نبايعهم؟ قال: يا أبا الربيع لا تخالطوهم، فإن الأكراد حي من الجن، كشف الله تعالى عنهم الغطاء فلا تخالطوهم“. ثم لاكَ هذا التحذيرَ مؤلفون آخرون في كتبهم مثل علي الطباطبائي، و الشيخ الجواهري و الشيخ الصدوق و الشيخ الطوسي و العلَامة المجلسي و الشيخ الحويز و ابن ادريس الحلِّي و يحيى بن سعيد الحلِّي و غيرهم من علماء الشيعة، الذين لم يقتصر هذا الأمر عليهم فحسب، بل سبقهم السُّنَّة، في ذلك، فقد ورد في “محاضرات الأدباء” للراغب الأصفهاني “أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، روى عن النبي صلى الله عليه و سلم، أنه قال: الأكراد جيل من الجن كُشف الغطاء عنهم…..”. كما ورد مثله في الجزء الأول من (مروج الذهب) للمسعودي. كل هذا يدلُّ على أن الكراهية تجاه الكورد في الثقافة الإسلامية لم تعد خطاباً، سرعان ما يزول عبر ردَّ فعل هادئ ومتجانس يدعو إلى نشر ثقافة التسامح، بل أصبحت ثقافة مارسها و ما زال يمارسها الإسلامويون، و يجاريهم القومويون العَلمانيون، أفراداً و أنظمة.
و إذا جئنا إلى العصر العثماني، فلا يمكن للتاريخ أن ينسى الكراهية العثمانية تجاه رعاياها من الشعوب و الملل التي كانت خاضعة لها، سواء كانوا عرباً أم أرمناً أم كورداً أم غيرهم، تجلَّت في مجازر دموية اتخذت صيغة الإبادة الجماعية للأرمن و الكورد، و عُلِّقت عشرات الشخصيات العربية المثقفة في ساحات دمشق و بيروت. واستمرت الكمالية الطورانية على النهج نفسه، بل تجاوزته بأن توجهت إلى العامة من الأتراك لتمجيد عرقهم، وذلك عبر ملصقات و لوحات مثبتة في الشوارع و على مداخل المدن تحمل عبارات عنصرية من مثل “كم أنا سعيد لأنني تركي!”. وسارت الحكومات التركية المتعاقبة إلى اليوم، على المنوال نفسه، فقد صرًّح القادة الترك أكثر من مرة بأنهم ” يعادون الدولة الكوردية، حتى إن أقيمت في البرازيل“، وما يقوم به الرئيس التركي أردوغان اليوم ليس إلا امتداداً لسياسات سابقيه، و قد زاد عليهم تحت وطأة ما يمكن تسميته بفوبيا الكورد. وما لاقاه الكورد في جنوب كوردستان على أيدي النظام الصدامي من كراهية تجلَّت في ما سمّاه “الأنفال” واستحدام السلاح الكيميائي في حلبجة، يفوق الوصف.
في الحقيقة كان الكورد وما زالوا ضحية الكراهية حتى اليوم، رغم ما قدموه للإسلام والعرب من خدمات كبيرة، يأتي تحرير القدس في المقدمة على يديْ صلاح الدين الأيوبي، الذي قال فيه أحد الشعراء الفلسطينيين، أعتقد أنه معين بسيسو أو محمود درويش، ذات يوم ساخراً مما يلقاه الكورد من كراهية من الجيران العرب: “انتصر صلاح الدين، فأصبح بطلاً عربياً، ولو لم ينتصر لَكان كردياً خائناً”.
ويذكر تاريخ سوريا الحديث أن الكورد كانوا في طليعة المقاومة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، فقد أُطْلِقت أول رصاصة في مواجهته من الشمال الغربي السوري من منطقة جبل الكورد، من بندقية الكوردي العفريني مُحو إيبو شاشو، و تصدَّى القائد العسكري الكوردي يوسف العظمة، الذي كان حينذاك وزيراً للحربية في الحكومة العربية بقيادة الملك فيصل الأول، لجحافل الجنرال الفرنسي غورو، وهو يعلم أن قواته ليست قادرة على الانتصار عليها أو وقْفِ زحفها نحو دمشق، ولكن هذا الكوردي النبيل أبى أن تدخل القوات الفرنسية دمشق دون مقاومة، فاستُشْهِد في بطاح ميسلون، بينما غيره حملوا سيارة غورو على الأكتاف عند مشارف دمشق، وقاد إبراهيم هنانو الكوردي المقاومة السورية في جبل الزاوية بنفسه وأملاكه، ضد الاحتلال الفرنسي، ورغم ذلك أُتُّهِم بالانفصال “أمة نزَّاعة إلى الانفصال“. فقد أشار الدكتور منير العجلاني في يوم تأبينه إلى ذلك إذ قال في كلمته “… بموته تقف حركةٌ شغلت الناس بفعلها عن تقدير أثرها، وما أدراك ما أثرها؟ قطعة أرض من الوطن على حدود الترك، تحتشد فيها أمَّة قيل إنها تاجرة، وقيل إنها نزَّاعة إلى الانفصال“. واندلعت في الجزيرة، في الشمال الشرقي السوري في قرية بياندورمعركة كبرى ضد الاحتلال الفرنسي، عُرِفت بمعركة بياندور، قُتل فيها “روكان” أعتى جنرال فرنسي حينذاك.
نعم غذَّى النظام السوري نزعة الكراهية لدى مناصريه ومعتنقي فكره القومي الشمولي تجاه الشعب السوري بجميع فئاته ومكوِّناته. إلا أن الكورد كانوا ومازالوا أكثر مكونات الشعب السوري عرضة لثقافة الكراهية، التي تجسَّدت في أشكال عنصرية عديدة، مثل اتهام الكورد باقتطاع جزء من أراضي الدولة، وضمه إلى دولة أخرى، هذا الاتهام الباطل الذي لم تخلُ السجون السورية بسببه من الكورد منذ أواخر خمسينيات القرن الماضى إلى اليوم. ومثل حرِمانهم من الانتساب إلى الكليات العسكرية، وتسنُّم المناصب العليا في الدولة إلا إذا كانوا “كورداً جيدين” حسب مقاييسها، بالإضافة إلى الاستيلاء على أملاكهم في الجزيرة وعفرين بحجة الإصلاح الزراعي، ومنحها للعرب الذين استقدمهم النظام من مناطق أخرى، وبنى لهم قرى نموذجية، وزوَّدهم بالأسلحة أيضاً، وتجريد مئات الآلاف من الكورد من الجنسية السورية، ومنْع تسجيل واقعات زواجهم و مواليدهم في سجلات الأحوال الشخصية، فباتوا فرائس للجوع والفقر والبطالة، والتمييز، وحُشروا في سجن مفتوح، إذ مُنِعوا من التنقُّل بين المحافظات السورية، والمبيت في الفنادق، و مُنعوا من التوظيف في دوائر الدولة.
وفي مقابل كل ذلك، يعجز حتى الغلاة القومويون والإسلامويون طوال قرن كامل هو عمر الدولة السورية، وما يزيد على ستين عاماً مضى على تأسيس أول تنظيم سياسي كوردي في سوريا، يعجزون عن العثور لدى الكورد على ما يشير إلى نزعة الكراهية تجاه أي مكوَّن من مكوِّنات الشعب السوري، سواء في أحاديثهم أم في أدبياتهم، واكتفوا بأن انكفؤوا إلى ذواتهم، يجترون مأساتهم، وحينما لاح لهم بصيص ضئيل من الأمل في تجاوز حالة الكراهية التي قوبلوا بها، سرعان ما انضم بعض قواهم السياسية إليه، معلنين مع شركاء الوطن “إعلان دمشق” عام 2005.
كنا نعتقد أن النظام هو وحده الذي يؤجِّج الكراهية ضد الكورد، الذين استبشروا خيراً باندلاع الثورة السورية السلمية في آذار/مارس عام2011، وخاصة حين سمعوا الحناجر تهتف (واحد واحد الشعب السوري واحد). و لكننا سرعان ما رأينا الثورة تنحرف عن مسارها بعد أقل من ستة أشهر، أو بالأحرى سرقها أناس من أصحاب الأجندات الحزبية و الفكرية الإسلاموية و العروبوية ، الذين عملوا، جنبا إلى جنب مع النظام في عسكرة الثورة، و الدخول معه في سباق استقدام دول لها أجنداتها الخاصة في سوريا، ومليشيات إرهابية ذات ثقافة تكفيرية، تذبح وتقتل تحت شعار “الله أكبر”.
كوردياً، هذا التحوُّل في مسار المقتلة السورية، كشف عن عورتها، و أكَّد أن ليس النظام وحده من يغذِّي ثقافة الكراهية تجاه الشعب الكوردي، بل وجدنا مواقف النخبة في المعارضة العربية السورية لا تقل تجذُراً وخطورة عن مواقف النظام في هذا الاتجاه. لقد عبَّر الائتلاف السوري الإخواني المعارض مراراً عن هذه المواقف، سواء من خلال تأييده للاحتلال التركي للمدن السورية، والكوردية منها خاصة، مثل عفرين ورأس العين وتل أبيض، و دعمه لميليشيات المرتزقة و المستوطنين في هذه المدن في ما يرتكبونه من أعمال الخطف طلباً للفدية، و القتل و السرقة و الابتزاز والاغتصاب و وضع اليد على مساكن المواطنين، وإخراجهم منها و مصادرة عقارات المواطنين الكورد و إحراق الغابات و اقتلاع أشجار الزيتون و إحراقها و غيرها من الجرائم التي يرتكبونها كل يوم. وقد خيَّب بعض الشخصيات والمؤسسات الإسلامية، بينها، “الأزهر الشريف” في القاهرة، أمل ما يقرب من مليون كوردي مسلم هم سكان عفرين و ريفها، إذ لم يستجيبوا لرسالة كتبتُها إلى شيخ الأزهر عام 2019 راجياً إصدار فتوى شرعية (بتحريم ما يحدث في عفرين من انتهاكات و جرائم)، ولكنهم خيَّبوا رجائي و آمال العفرينيين.
أو من خلال تصريحات بعض شخصيات المعارضة العربية السورية المثقفة من أمثال هيثم المالح وأسعد الزعبي وبرهان غليون وأحمد كامل وبسام جعارة ومصطفى السيجري وغيرهم. واليوم يرافق الحواراتِ الدائرةَ بين القوى السياسية الكوردية السورية بغية إيجاد صيغة للتوافق عليها فيما بينها، ضجيجٌ كبيرٌ عبر صفحات التواصل الاجتماعي وبيانات موقعة من مئات الشخصيات العربية تندِّد بهذه الحوارات، وتبثُّ سموم الكراهية، وتشحن المكوِّن العربي السوري ضدها.
وبعد سقوط النظام في 8. 12. 2024، استبشر الكورد السوريون خيراً، و توقّعوا أن هذا السقوط سينتهي إلى القضاء على ثقافة الكراهية تجاه الكورد في المجتمع العربي السوري، إلا أن الإدارة السورية الجديدة حتى اليوم تكتفي بترديد جملٍ باللغة الكوردية لدغدغة المشاعر وبكلام رومنسي جميل طالما سمعناه منذ تأسيس الدولة السورية في الربع الأول من القرن الماضي، إذ قالوا و مازالوا يردِّدون “الكورد جزء من النسيج الوطني السوري” ولكنهم رفضوا و مازالوا يرفضون ألوان هذا النسيج.
وغير هذا الكلام الجميل، لم تُظهر الإدارة السورية الجديدة ما يمكن أن يُستشفَّ منه موقف مغاير لمواقف سابقيها و مواقف الائتلاف السوري المعارض ونخبته الثقافية. فهي، بضغط من تركيا و ربما بضغط من بعض فصائلها أيضاً، تركِّز على تسليم القوة العسكرية “قسد”، التي تضم بالإضافة إلى الكورد مختلف ألوان النسيج السوري، سلاحها قبل أي حديث عن حقوق الكورد في سوريا، ويصمتون عن سلاح مرتزقة الائتلاف السوري الإخواني و تركيا، الذين مازالوا إلى اليوم يستخدمون الأسلحة والدعم التركي في قتل الكورد، و الإدارة الجديدة لم تُظهر موقفاً تجاه ذلك، لكأن المدن والقرى السورية والكوردية بينها ليست جغرافيا سورية، ولا يهمها أمرها، وكأن الذين تقتلهم الطائرات والمسيَّرات التركية ليسوا سوريين.
ومن جهة أخرى يطالبون “قسد” بإخراج المقاتلين الأجانب من صفوفها، وقد أبدت قيادة “قسد” تفهُّمها واستعدادها لإخراجهم، ولكنها (تركيا والإدارة السورية الجديدة) لا تتحدَّث عن آلاف الأجانب في صفوف مقاتليها من الشيشانيين والداغستانيين والتركمستانيين والأوزبكيين وآلاف الإيغوريين الذي استقدمتهم تركيا من الصين، و تمنحهم الرُّتب العسكرية متجاوزة اختصاصها. إن هؤلاء الغرباء، وخاصة الإيغوريين منهم، القادمون من ثقافاتهم مختلفة، تتباين مع ثقافة السوريين، سيكونون في المستقبل وبالاً على المجتمع السوري، لأنهم جلبوا أسَرَهم معهم، مما يدل على أنهم لن يغادروا سوريا، بل سيستوطنونها. وربما يُمنحون الجنسية السورية، وقد قال أحمد الشرع في بدايات دخولهم دمشق “إن كثيراً من دول العالم تمنح المهاجرين إليها جنسيتها بعد مرورخمسة أعوام على إقامتهم فيها”.
كيف يمكن مواجهة ثقافة الكراهية؟
في مواجهة خطاب الكراهية، وما أسميه ثقافة الكراهية، يعوِّل عدد كبير من السوريين والكورد بينهم، على دستور جديد لسوريا، يسع كل السوريين والسوريات على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، ويقونن الحل العادل للقضية الكوردية في سوريا، ويتضمن مواد جديدة في الميراث والأحوال الشخصية لإنصاف المرأة. إلا أنني أعتقد أن الدساتير ليست قادرة على النجاح في التصدي لهذه الثقافة / الآفة، لأنها، أي الدساتير، مُنتَج بشري، وسورياً هو من صناعة الذين تشرَّبت نفوسهم بهذه الثقافة المقيتة، فهؤلاء هم من سيقومون على تطبيق مواد الدستور. إن لم تتغير عقلياتهم، فإنهم سيفسِّرون حتى المواد ما فوق الدستورية التي تتضمنها المقدمات الدستورية، وفق أهوائهم، وأسطع مثال على ذلك هو وضع الدستور العراقي الذي أُنتِج عام 2005 بعد سقوط نظام صدام حسين، يقفز قادة العراق على بعض مواده.
ومع ذلك فإن مواجهة خطاب الكراهية أكثر سهولة من مواجهة ثقافة الكراهية، ذلك لأنه خطاب أكثر ما يصدر عن النخب، التي بإمكانها أن تفلسفه، ولكنها قد تعجز عن تجذيرها في المجتمع. وهذا ما يسهّل سبل مواجهته والقضاء عليه من خلال حوارات عقلانية بين تلك النخب والنخب الكوردية، وكذلك من خلال التوعية في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة ومواقع التواصل الاجتماعي، وسيستغرق ذلك وقتاً، ولكنه لن يكون أطول مما ستستغرقه مواجهة ثقافة الكراهية. فهذه مواجهتها ليست بالأمر اليسيرو السهل، لأنها قد تجذَّرت عبر الكتب الصفراء والمناهج المدرسية والفكرية، وامتدت حتى قاع المجتمع، كما بدا ذلك من خلال ما يقوم به مريدو المعارضة العربية السورية بفرعيها القوموي و الإسلاموي، و فصائلها الجهادية المرتزقة.
أكاد أجزم أن ما تقوم به هذه الفصائل في المناطق الكوردية من انتهاكات يومية يندى لها جبين الإنسانية، وعلى مرآى ومسمع من قادة هذه المعارضة والإدارة السورية الجديدة، ليس نتاج النظام وعقلية المقتلة السورية فحسب، بل هو تعبير حي وعمليٌّ لمكنونات نفوسهم عبر مئات السنين بفعل تلك الكتب الصفراء التي وجدت في الفكر القوموي العروبي ما يرسِّخها فكرياً و تربوياً. و لا يمكن مواجهة الفكر إلا بالفكر، مما يتطلَّب تغيير المناهج المدرسية والجامعية، و إزالة كل الأفكار الواردة فيها عن تأجيج الكراهية، و استبدالها بأخرى تدعو إلى المحبة و ثقافة التسامح، و ثقافة احترام القانون عبر تغيير العقلية العربية السورية، التي تربَّت على بدء يومها بشعار “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة” طوال ما يزيد على نصف قرن، و لن يحدث هذا بين عشية و ضحاها، لأن إزالة ما زرعه الفكران الإسلاموي و القوموي العروبي الشموليان في النفوس تحتاج زمناً طويلاً، و عملاً جاداً و متواصلاً في الاتجاه نفسه، و ثقافة قانونية تنظر إلى المواطنين السوريين من كل مكوِّنات الفسيفساء و”النسيج السوري” الشعبي و الديني من منظار واحد. يُضاف إلى ذلك إعادة تأهيل الكادر التعليمي والوظيفي والقضائي في مختلف دوائر الدولة، عبر ندوات وكونفرانسات وبرامج فكرية في وسائل الإعلام، وخاصة المتلفزة، حول ثقافة التسامح، ليلعبوا دورهم الفعال في مواجهة ثقافة الكراهية.
هانوفر في 29. 01. 2025