الكرد السوريون وخياراتهم: واقع معقد وآفاق مفتوحة…..

إبراهيم اليوسف
يروي تاريخ الكرد في سوريا حكاية تداخل معقد ومرير بين الصمود والاضطهاد، معكساً تفاعلًا طويل الأمد بين التهميش السياسي والاجتماعي والإصرار على الوجود والهوية. رغم العقود التي حملت سياسات تهجير ممنهجة مثل مشروع الحزام العربي وغيره من سياسات العزل والتغيير الديموغرافي، ظل الكرد راسخين في أرضهم، مدافعين عن ثقافتهم وحقوقهم، وساعين لإقامة سوريا متعددة الثقافات تضمن الكرامة لجميع أبناء البلد على اختلاف مللهم ونحلهم. إن دور الكرد في سوريا لا يمكن اختزاله- كمايروج- في كونهم أقلية عرقية؛ فهم يشكلون جزءًا أصيلًا ومؤثرًا من المجتمع السوري، يتوزعون في مناطق استراتيجية ذات أهمية اقتصادية وزراعية كبرى. وإنهم منذ انطلاق الثورة السورية2011، لعبوا دورًا فاعلًا في محاربة الإرهاب والدفاع عن مناطقهم، وقدموا نموذجًا فريدًا في تنظيمهم وقدرتهم على الإدارة الذاتية، رغم العوائق الداخلية والخارجية. هذا الدور، مع الأسف، لم يُقابل بالاعتراف الكافي أو الدعم الحقيقي من القوى الإقليمية والدولية، بل تعرض لمحاولات تقويض مستمرة، لأسباب متعددة من بينها عدم انفتاح الكردي على الكردي، نتيجة سياسات كردستانية لاستخدام كرد سوريا كحصان طروادة!
وإنه مع تسارع المتغيرات الإقليمية والدولية، برزت مؤشرات خذلان متكررة للقضية الكردية من مختلف الجهات. القوى الدولية التي دعمت قوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد “داعش”، سرعان ما تخلت عنها في محطات حرجة، مثلما حدث في عفرين2018، وكري سبي/ تل أبيض، وسري كانيه/ رأس العين2019، حيث تم تمكين تركيا من احتلال هذه المناطق بدعم أو صمت دولي. تركيا نفسها استخدمت المعارضة السورية كأداة لضرب الكرد، متجاوزة كل شعاراتها حول “حماية وحدة سوريا”، لتثبت أن مطامعها تتعدى المصالح السورية نحو أهداف توسعية أيديولوجية وسياسية. وفي السياق ذاته،  فقد أضعفت الانقسامات الكردية الداخلية الموقف العام. الأحزاب الكردية، من حزب الاتحاد الديمقراطي إلى المجلس الوطني الكردي، لم تستطع تجاوز خلافاتها لتقديم رؤية موحدة أو قيادة متفق عليها. سياسات حزب الاتحاد الديمقراطي قوبلت بانتقادات حادة، خاصة فيما يتعلق بإدارته للعلاقات الدولية والمحلية. أما المجلس الوطني الكردي، فقد أخفق في استقطاب شرائح واسعة من الشعب الكردي، ما أدى إلى تراجع قدرته على التأثير، نتيجة ما مورس من قمع وتشويه منظم بحقه!
في ظل هذه التحديات، يتضح أن فشل الاعتماد على أية قوة خارجية وجعل الاعتماد على الوحدة الداخلية فقط هو السبيل الوحيد أمام الكرد السوريين. الوحدة يجب ألا تكون مجرد وسيلة لتجاوز محطة زمنية أو لخداع طرف على آخر وإسقاط هيمنته، بل لأنها ضرورة وجودية لضمان بقاء الكرد وكرامتهم.  إن أي خلل في هذه المعادلة يمكن أن يؤدي إلى دمار هذا الشعب ومكتسباته، وهناك من يتعامل مع هذا المطلب بأمية تامة، غير مدرك لأبعاده المصيرية. فقد تأسس المجلس الوطني الكردي في عام 2011 كإطار سياسي، لكنه اضطر لاحقًا للتحالف مع الائتلاف السوري المعارض لضمان حضوره في لجنة التفاوض. هذه الخطوة أثارت جدلاً كبيرًا، خاصة أن الإدارة الحالية في سوريا لا تعترف بالائتلاف أو بأي حزب سياسي سوري.
إن الخيارات أمام الكرد السوريين اليوم تتطلب تعزيز الوحدة الداخلية وتجاوز الخلافات الحزبية الضيقة، إذ لا مجال لإضاعة الوقت في صراعات داخلية بينما هناك سعي حثيث كي تُسرق الأرض وتُغير الهوية.  ومن هنا فإنه يجب على الكرد تطوير قدراتهم الذاتية في المجالات الاقتصادية والتعليمية والسياسية لضمان الاستقلالية في اتخاذ القرارات المصيرية بعيدًا عن الإملاءات الخارجية. كما يتعين عليهم السعي لمشاركة حقيقية في مراكز صنع القرار على جميع المستويات، بدءًا من رئاسة الجمهورية إلى الجيش والشرطة، والمطالبة بالاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية ثانية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يجب التصدي لخطاب الكراهية الذي تروج له بعض الأطراف من خلال نشر ثقافة الاحترام المتبادل والعمل المشترك مع القوى المناهضة للعنصرية.
إن حرية الكرد وكرامتهم ليست خيارًا قابلًا للتفاوض، بل هي حق إنساني وأخلاقي يجب تحقيقه. التحديات أمام الكرد في سوريا كثيرة، لكن فرصهم كبيرة إذا ما تضافرت الجهود لتحقيق الوحدة، واستغلال الإمكانات الذاتية، والانخراط في العمل الوطني بشكل فاعل. الطريق إلى الأمام يتطلب حكمة في اختيار الأولويات، وجرأة في مواجهة التحديات، وثباتًا على القيم الوطنية والإنسانية. على الكرد أن يدركوا أن نضالهم ليس مجرد معركة من أجل حقوقهم، بل هو جزء من معركة أوسع لتحرير سوريا من القمع والاحتلال. خياراتهم اليوم ستحدد مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة، ومع الإصرار والعمل المشترك، يمكنهم فتح آفاق جديدة نحو الحرية والكرامة والعدالة.
 
الكرد ركيزة استقرار المنطقة:
رسالة في اتجاهات متعددة
الآفاق المفتوحة أمام الكرد السوريين تعكس واقعًا جديدًا يحمل فرصًا للتغيير على المستويين المحلي والدولي. فمنذ تأسيس الدولة السورية، أثبت الكرد أنهم جزء أصيل من هذا الوطن، وقد حرصوا- بحق- على شراكتهم مع باقي المكونات، وتمسكوا بقوميتهم وحقوقهم، من دون أي تفريط، وهذا ما يسجل لهم، رغم محاولات التذويب والاضطهاد التي تعرضوا لها في أصعب المراحل. هذا الثبات جعلهم محط أنظار العالم، ليس فقط لدورهم في محاربة الإرهاب، بل أيضًا لإصرارهم على بناء نموذج يضمن التعايش والعدالة لهم ولشركائهم.
اليوم، تتجه الأنظار نحو الكرد باعتبارهم ركيزة أساسية لاستقرار المنطقة، وهو ما يعزز مسؤولية السوريين في إدراك أهمية دورهم. إذ  أن استمرار تجاهل حقوق الكرد سيتيح للقوى الأجنبية التدخل واستغلال أي خلل داخلي لتحقيق مصالحها، ما يعيد تكرار سيناريوهات مؤلمة شهدتها سوريا في العقود الأخيرة. من هنا، فإنه يصبح تبني الفيدرالية حلاً واقعيًا ومنطقيًا، ليس فقط لضمان حقوق الكرد، بل للحفاظ على وحدة سوريا ومنع تفككها في ظل صراعات الأطراف المختلفة، وهذا ما يجب أن يدركه هؤلاء الذين لديهم تلك الروح التي من شأنها أن توافق على دمار سوريا: مكاناً وكائنات، شريطة ألا تقوم للكرد قائمة!؟
ولابد من الإشارة، إلى أن الغرب، رغم تضاربه في السياسات، يدرك-في النهاية- أهمية الكرد كشريك استراتيجي في المنطقة. لكنه في الوقت ذاته، يراهن على مواقف محلية أكثر عقلانية تدعم الاعتراف بحقوقهم، وتجنب تحويل سوريا إلى ساحة مفتوحة للتنافس الدولي.  وعلى جميعنا: معادين للكرد أو متفهمين أو منحازين إليهم أن يدركوا أن المستقبل للكرد لن يكون استمرارًا للوضع الراهن؛ فمئة سنة أخرى من التهميش ليست خيارًا. الكرد اليوم في موقف يؤهلهم للعب دور أكبر، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي، شرط أن يستثمروا هذه الفرص بوحدة داخلية ورؤية واضحة، وأن يدرك الآخرون أن الاستقرار في سوريا يبدأ من الاعتراف بحقوق جميع مكوناتها.، كما أن على الكرد أن يدركوا أن في تشتتهم ما يبيقيهم ضحايا لهؤلاء الذين ينفذون مخططات إبادتهم، وأن في قوتهم ما يحقق عودتهم إلى مسرح التاريخ والجغرافيا، أقوياء، فاعلين، كما يليق بتاريخهم البطولي والإنساني!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف ليست القيادة مجرد امتياز يُمنح لشخص بعينه أو سلطة تُمارَس لفرض إرادة معينة، بل هي جوهر ديناميكي يتحرك في صميم التحولات الكبرى للمجتمعات. القائد الحقيقي لا ينتمي إلى ذاته بقدر ما ينتمي إلى قضيته، إذ يضع رؤيته فوق مصالحه، ويتجاوز قيود طبقته أو مركزه، ليصبح انعكاساً لتطلعات أوسع وشمولية تتخطى حدوده الفردية. لقد سطر…

نارين عمر تدّعي المعارضة السّورية أنّها تشكّلت ضدّ النّظام السّابق في سوريا لأنّه كان يمارس القمع والظّلم والاضطهاد ضدّ الشّعوب السّورية، كما كان يمارس سياسة إنكار الحقوق المشروعة والاستئثار بالسّلطة وعدم الاعتراف بالتّعدد الحزبي والاجتماعي والثّقافي في الوطن. إذا أسقطنا كلّ ذلك وغيرها على هذه المعارضة نفسها – وأقصد العرب منهم على وجه الخصوص- سنجدها تتبع هذه السّياسة بل…

فوزي شيخو في ظل الظلم والإقصاء الذي عاشه الكورد في سوريا لعقود طويلة، ظهر عام 1957 كفصل جديد في نضال الشعب الكوردي. اجتمع الأبطال في ذلك الزمن لتأسيس حزبٍ كان هدفه مواجهة القهر والعنصرية، وليقولوا بصوتٍ واحد: “كوردستان سوريا”. كان ذلك النداء بداية مرحلةٍ جديدة من الكفاح من أجل الحرية والحقوق. واليوم، في هذا العصر الذي يصفه البعض بـ”الذهبي”، نجد…

كفاح محمود تعرضت غالبية مدن الشرق الأوسط خاصة في الدول العربية المتعددة المكونات القومية والدينية والمذهبية منذ اكتشاف النفط وفي دول أخرى بُعيد انقلابات العسكر على النظم السياسية الى تضخم مريع في التركيب السكاني، وتغيير ديموغرافي حاد في ظل أنظمة اجتماعية قروية وسياسية شمولية، حولت المدن الى قرى مسرطنة بعد ان فعل الفقر والجهل والتصحر والعقلية السياسية المغلقة فعلته في…