عبدالجبار حبيب
منذ أن حلَّ علينا “الربيع العربي” كضيف ثقيل، لم تعد السياسة حكراً على السياسيين، بل تحولت إلى وجبة يومية يتناولها الجميع مع وجبة الإفطار، وحتى مع الشاي قبل النوم. لم يعد هناك فرق بين الخباز والمحلل الاستراتيجي، ولا بين بائع البندورة ورئيس مراكز الأبحاث. السياسة تسللت إلى كل شيء، حتى الهواء صار مشبعاً بالتحليلات والتوقعات.
سوق السياسة الحرة: كيلو بندورة بنكهة الجيوسياسة
المفارقة تبدأ في أبسط الأماكن: السوق. تذهب لشراء كيلو بندورة، فتجد البائع قد ترك مسألة الوزن والأسعار، وانشغل بشرح تأثير العقوبات الاقتصادية على سعر الصرف، مع تحليل معمّق لسياسات البنك الدولي. وإذا حاولت مقاطعته لتسأله عن الطماطم الطازجة، فسيرد عليك وكأنه متحدث باسم صندوق النقد الدولي:
ــ الاقتصاد يا عزيزي تحكمه التوازنات الجيوسياسية! هل تعلم أن سعر الطماطم مرتبط بالاتفاق النووي الإيراني؟!
وإذا حاولت الفرار من هذا التحليل المجاني، ستصطدم ببائع الليمون، الذي يحذرك من تداعيات أزمة الطاقة العالمية، في حين ينشغل بائع البطاطا بشرح تأثير الانتخابات الأميركية على أسعار البطاطس في الشرق الأوسط.
رجال الدين والموعظة السياسية: الآية من هنا والتصريح من هناك
أما رجال الدين، فقد اكتشفوا أن طريق الجنة لم يعد يمر عبر الخطب والمواعظ، بل عبر التحليل السياسي. فصار الواحد منهم لا يفرق بين آية قرآنية وتصريح لوزير خارجية. فيبدأ خطبته بقول الله تعالى، وينهيها بموقف رسمي لدولة عظمى، ثم يدمجهما معاً بطريقة تجعلك تتساءل إن كنت في مسجد أم في ندوة عن الأمن القومي.
تسمع الشيخ يقول بثقة:
ــ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم… تماماً كما صرّح وزير الخارجية الأميركي بالأمس!
وإذا سألته عن موقف الدين من العدالة، سيغمزك بعين خبيرة ويقول:
ــ العدالة الدولية؟ للأسف، تخضع لموازين القوى!
المثقفون : وداعاً للأدب، أهلاً بالبيانات السياسية
المثقفون أيضاً لم ينجوا من هذا الطوفان. بعد سنوات من كتابة الروايات التي لم يقرأها أحد، وجدوا ضالتهم في السياسة. فالشاعر صار يكتب بيانات سياسية، والروائي يكتب تحليلات اقتصادية، والرسام لم يعد يرسم المناظر الطبيعية، بل تحول إلى “جرافيتي” يرسم خرائط التحالفات الدولية على الجدران.
حتى الممثلون، الذين كانوا يصرخون على خشبة المسرح، صاروا يصرخون في الندوات السياسية، مطالبين بـ”إسقاط الأنظمة الفاسدة”، وكأنهم في مشهد درامي طويل لا ينتهي.
ندوات لا تنتهي ومنشورات فلكية
لا يكاد يمر يوم دون ندوة سياسية هنا أو هناك. الندوات أصبحت مثل الطقس اليومي، مثل شروق الشمس وغروبها. كل من لم يكن يفهم شيئاً في السياسة، صار الآن يكتب منشورات يومية، يبدي فيها رأيه في العلاقات الدولية وكأنه أصبح قارئاً للأبراج السياسية.
ــ برج الشرق الأوسط اليوم متوتر بسبب تحركات المريخ في المدار الأميركي!
ــ برج الاتحاد الأوروبي يعاني من تراجع زحل، لكن هناك تحسن متوقع مع دخول عطارد في المفاوضات!
صار الناس يتابعون المشهد السياسي كما يتابعون الأبراج، يراقبون تصريحات القادة العالميين وكأنهم يراقبون حركة الكواكب، ويطلقون توقعاتهم بناءً على إشاعات الفيسبوك أكثر مما يعتمدون على الواقع.
الأطفال.. خرّيجو أكاديميات السياسة المبكرة
الأطفال، الذين كانوا فيما مضى يلعبون الكرة في الأزقة، صاروا الآن يناقشون الخلافات الأيديولوجية. لم يعد الطفل العادي يعرف الفرق بين المضاف والمضاف إليه، لكنه يحفظ أسماء رؤساء الدول الكبرى، ويعرف تفاصيل الانقلابات العسكرية أكثر مما يعرف جدول الضرب.
حتى المدارس تحولت إلى مراكز تدريب سياسي، فالطالب الذي كان يُطلب منه كتابة موضوع عن “كيف قضيت عطلة الصيف”، صار يُطلب منه تحليل خطاب رئيس وزراء بريطانيا. والطفل الذي كان يحفظ عواصم الدول، صار يحفظ مواقف الأحزاب، ويصنّف زملاءه بناءً على انتماءاتهم السياسية.
لمقاهي.. برلمانات مفتوحة على الهواء مباشرة
أما المقاهي، فقد تحولت إلى برلمانات مصغرة. كل طاولة تمثل حزباً، وكل مجموعة أصدقاء لديهم رؤية سياسية متكاملة لحل الأزمات العالمية. تجد أحدهم يضرب على الطاولة بحماس، محذراً من الانجرار وراء “اللعبة الدولية”، وكأن هناك طبخة جديدة تُحضَّر في الكواليس… بتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى مناطق سورية شرق الفرات!
بينما يرد عليه آخر بأن “المؤامرة الكونية” هي السبب وراء كل المصائب، فيتدخل ثالث ليشرح نظريته عن “توازن القوى” بكلمات لا يفهمها حتى هو، و الأكثر غرابةً، أن مصادر معلوماتهم هي فيديو مدته ثلاث دقائق شاهده على ‘تيك توك’.”
نهاية الرحلة.. بلا بندورة
وبعد كل هذا، تعود إلى منزلك متعباً، مرهقاً من جرعة السياسة المفرطة التي تلقيتها طيلة اليوم، ثم تدرك فجأة أنك لم تشترِ البندورة التي خرجت من أجلها. لكنها لم تعد مهمة. فقد أصبحت أكثر وعياً بمستقبل الشرق الأوسط، وأكثر دراية بخفايا السياسة الدولية، وكل ذلك دون أن تدفع قرشاً واحداً، سوى بعض الساعات التي قضيتها في الاستماع الإجباري.
هكذا، في هذا العالم الجديد، لا يوجد مكان للهروب من السياسة. السياسة ليست خياراً، إنها مصير لا مفر منه!