إبراهيم اليوسف
من الخطة إلى الخيبة
لا تزال ذاكرة الطفولة تحمل أصداء تلك العبارات الساخرة التي كان يطلقها بعض رجال القرية التي ولدت فيها، “تل أفندي”، عندما سمعت لأول مرة، في مجالسهم الحميمة، عن “الخطة الخمسية”. كنت حينها ابن العاشرة أو الحادية عشرة، وكانوا يتهكمون قائلين: “عيش يا كديش!”، في إشارة إلى عبثية الوعود الحكومية. بعد سنوات قليلة، سمعتهم مجددًا يتحدثون بدهشة عن تكلفة جسر الخابور في الحسكة، متسائلين كيف أُنفقت الحكومة مبالغ هائلة على مشروع بدا رمزيًا أكثر مما هو فعلي.
من الخطة الخمسية إلى العشرية
منذ عهد الأسد العجوز وحتى عهد الأسد الصغير، أُطلقت سلسلة طويلة من الخطط الاقتصادية بلغت حوالي إحدى عشرة خطة خمسية، إلا أن السوريين فقدوا الثقة بها. كانت هذه الخطط تُصاغ نظريًا لتطوير البنية التحتية وتحقيق التنمية، لكنها اصطدمت بجدار الفساد المستشري وسوء الإدارة. الاقتصاد السوري، الذي كان يجب أن يكون الدعامة الأساسية لهذه الخطط، تعرض للنهب الممنهج، أما الاقتصاديون الذين يفترض أنهم يقودون التغيير، فكانوا مقيدين بلا سلطة حقيقية.
مع تفاقم الأزمات، أصبح الحديث عن الخطط الخمسية مثار تهكم واسع النطاق. فقد طرحت في ظل الأسد الابن، خطط عشرية بديلة، وكأن المشكلة تكمن في الإطار الزمني وليس في غياب الإرادة السياسية والتنفيذية. لكن هذه الخطط أيضًا ذهبت أدراج الرياح، لاسيما في ظل الحرب التي أشعلها النظام على السوريين. لذلك فقد تناهبت مشروع الخطة الوهمية التي كانت عبارة عن ذر للرماد في العيون. وهكذا فثمة خطط دمرتها السياسات القمعية والإرهاب، وثمة خطط دمرتها آلة الحرب والتدخلات الإقليمية والدولية، وخاصة الروسية والإيرانية والتركية، إذ أصبح البلد يحتاج خططًا خمسينية على الأقل، لا يمكن انتظارها، وليس مجرد وعود قصيرة الأمد.
وحدها خطط الرعب والإرهاب والسجون والتصفيات كانت ناجحة
تبدو الخطط التي وضعها نظام الأسدين: الأب- الابن أشبه بـ”سيرومات الوهم”، تُحقن في جسد السوريين لإبقاء حلم التعافي حيًا، رغم أن الوقائع تكشف زيفها. فالخطة الخمسينية التي ربما كان ينبغي أن تُطرح في زمن الأسد الأب، أصبحت في عهد الابن مجرد استمراراً لمنظومة الأوهام. هكذا وُلدت أجيال ورحلت دون أن ترى أيًة من هذه الخطط تترجم إلى واقع.
لا للانتقام بحق الأقليات
لا يمكن لسوريا أن تتعافى في ظل الانتقام العشوائي الذي يطال الأقليات، لاسيما العلويين. إذ إن هناك محاكم يجب أن تحاسب كل من أجرم بحق الشعب، لكن ما نراه من انتقامات هو شأن داعشي يشبه ما قامت به شبيحة النظام في صيدنايا والشارع. إن المؤشرات الحالية مرعبة، خاصة من خلال”بعض” التشكيلات الإسلاموية التي تُمرر بدعوى أنها انتقالية. هذه ليست سوريا التي نحلم بها، فلا تجعلونا نعلق آمالنا على مشجب الخطط الخمسينية القادمة.
الحلم الذي لا يموت
بعد سقوط النظام الديكتاتوري، عادت التساؤلات إلى الواجهة: إلى أين تتجه سوريا؟ الأحلام التي كانت يومًا أملًا، تحولت إلى كوابيس بعد الانكسارات المتتالية. ومع ذلك، يبدو أن السوريين باتوا مدمنين على الحلم، حتى وهم في مواجهة الدمار. الحديث عن “خطط” جديدة، سواء أكانت اقتصادية أم سياسية، يدور في الأروقة، لكن معظم السوريين يدركون أن التغيير الحقيقي لن يتحقق بسهولة، لاسيما أمام نفخ سموم الفتنة والفتنة المضادة التي تدار من قبل المتربصين بالبلد، لاسيما إن تركيا تكاد تقدم ذاتها وصية على العرش، وكأنها هي التي أسقطت الأسد؟
المراقبة الدولية ومآلات الأمل
مؤكدٌ أن سوريا اليوم باتت تحت مجهر المراقبة الدولية والعربية، وقبل ذلك رقابة أبناء سوريا في الوطن والشتات. أجل. العالم يترقب مصير هذا البلد الذي تحول إلى ساحة صراع إقليمي ودولي. الأحلام السورية بالتغيير تصطدم بالمظاهر الناشزة التي تعكر صفو الأمل، من لدن طرفين متناقضين، تتربص إيران لتلقف النتائج، وتنفخ في حريق حرب أهلية قد تستغرق عقدًا زمنياً، أو ربع قرن آخر، لنكون أمام سوريا، من دون سوريين، وهو ماتتسابق تركيا إليه في إطار إعادة استعباد السوريين، في سوريا بلا كرد، تحت الذريعة الكاذبة: محاربة حزب العمال الكردستاني الذي تحرص تركيا على وجوده في المناطق الكردية في سوريا لإبادة كرد سوريا والإمعان في تشديد القبضة على سوريا لتكون عبارة عن حديقة خلفية للاخوان المسلمين وتركيا ومرتزقتها!
إلى أين؟
لا يمكن لسيرومات الوهم أن تُبقي السوريين في حالة انتظار إلى الأبد. الأرض التي ضاقت بمواطنيها، سواء بسبب القتل أو التهجير، تحتاج اليوم إلى خطط حقيقية. السوريون بحاجة إلى رؤية سياسية تعددية واقتصادية قائمة على الصدق والتنفيذ، لا إلى وعود معلبة تُستهلك على مدى عقود. لأن أولي الأمر إذا أرادوا لسوريا أن تتعافى، فإن عليهم التفكير بوضع خطط تتجاوز كونها مجرد شعارات. خطط تُبنى على إرادة شعبية حرة، بعيدًا عن القيود الوهمية التي أدمت هذا البلد.
دعوا فرحة السوريين تكتمل
دعوا فرحة السوريين تكتمل بإسقاط أعتى نظام متبقٍ في الشرق الأوسط وربما العالم، وهو النظام الذي شهد العالم كله فظائع إرهابه. لذلك، فلننتظر تطبيق العدالة الانتقالية بعيدًا عن شبح الانتقام الذي يغذي احتمالات إشعال فتيل حرب أهلية. إذ إن تقديم الذرائع من قبل متعطشين للدماء، وهم من ظهرت بعض فيديوهاتهم، قد يسهم في خلق كارثة جديدة. لا شك أن هناك من سيلبي مطالب إيران، التي قد ترى في استمرار الحرب على أرض غير أرضها وسيلة لتأجيل ما ينتظرها داخليًا. لنحرص على منع هذه السيناريوهات القاتمة، كي نضمن مستقبلًا أكثر أمانًا وعدالةً لسوريا وأهلها.