الحربائيون: بين ألوان الولاء وسموم التحريض

إبراهيم اليوسف
 يظهر صنف لا يزول ولا ينقرض، في كل عصر، و”يتجدد” مع  كل انقلابٍ للزمان، متكاثراً كالأميبا، ويتلون كالحرباء. بالأمس كانوا يرفعون عقيرتهم باسم السلطة القائمة، واليوم يفعلون الشيء ذاته، لكن بأسماء جديدة، بشعارات مستوردة، وبأساليب أكثر نفاقاً ووحشيةً. هؤلاء الذين لم ينتظروا لحظة واحدة بعد ٢٩-١-٢٥ حتى بدأوا بعزف نغمة الوعيد والتهديد ضد كل من لا يشاركهم حفلة الولاء الجديدة، وكأنهم خرجوا من دورة مكثفة في “فقه الاغتيال المعنوي”، وأخذوا على عاتقهم أن يكونوا حراس العقيدة السياسية المستحدثة!
لقد شاهدناهم بالأمس، وكانوا واقفين أمام أبواب المكاتب الحزبية و الأمنية، يحرضون ضد زملائهم، ويتطوعون لكتابة المقالات المنمقة عن “القائد الملهم”. واليوم، هم ذاتهم هؤلاء اليوم بالوجوه ذاتها والأسماء ذاتها، وبلهجات متحولة جديدة، وأحياناً بجوازات سفر أوروبية! لم يتغير فيهم شيء، سوى أن القميص الذي يرتدونه صار يحمل شعاراً مغايراً. من صورة عبدالناصر إلى علم البعث إلى شعار:التكبير. بالأمس كانوا يتزلفون لسلطةٍ بزيٍّ قوميٍّ شوفيني، واليوم يركعون لسلطة تحمل لوناً آخر، ويتبرعون بتقديم قوائم الأعداء الجدد.
هؤلاء الحربائيون، لديهم قدرة خارقة على استشعار الرياح قبل أن تهب. لا يحتاجون إلى قراءات استراتيجية، فهم بحاسةٍ سادسة يستطيعون تحديد اللحظة التي يجب فيها تغيير أقنعتهم. لا يعرفون الخجل، ولا الحياء، ولا الحرج ولا الكرامة ولا الشرف. إن أخرجت لهم صور مقالات بعضهم أو حتى فيديوهات بعضهم الآخر، حيث كانوا يمدحون النظام السابق ويشتمون خصومه، سيقولون لك: “لقد كان مغررًا بنا!”، وإن أريتهم تهديداتهم اليوم ضد المختلفين عنهم، سيبتسمون بثقة ويقولون: “نحن ندافع عن الثورة!”
لكن، لنتحدث بصراحة: أي ثورة هذه التي تتطلب تحريضًا على القتل؟ وأي تغييرٍ هذا الذي يُقاس بمستوى قدرة المزايدين على إقصاء الآخرين؟ أليس من المخزي أن يكون أول ما يفعله هؤلاء، في الثواني الأولى لأي تغيير، هو تقديم أنفسهم على أنهم “سادة المرحلة”؟ كأنهم قُدِّر لهم أن يكونوا خدام كل سلطة، مهما تغيّرت الراية!
في أوروبا، حيث يفترض أن تكون حرية الرأي مصانة، رأينا بعضهم يجرّب أدواته القديمة في العهد الجديد. هناك، حيث كانوا يتشدقون بالديمقراطية، لم يترددوا في تحريض الحكومات على المختلفين معهم، عبر هذه الوسيلة أو تلك، في تهييج الإعلام ضد خصومهم. كيف لا يفعلون ذلك وهم تلاميذ مدرسة “الاستبداد الناعم”؟ كيف لا، وهم خبراء في تسويق الخوف، وصناعة الأعداء، وتمهيد الطريق أمام “السلطة الحقيقية” لتصفية الحسابات؟
لكن، على هؤلاء الحربائيين أن يعلموا أن العهد الجديد- أيًّا كان-  لن يكون ساذجاً بما يكفي ليصدق ولاءهم المفاجئ. عليهم أن يدركوا أن الزمن قد تغيّر، وأن ذاكرة الناس لم تعد قصيرة كما كانت. فلا أحد سيصدق أن من كان يهتف قبل سنوات لسلطة، ثم انقلب عليها عند أول فرصة، هو شخص مخلص. بل هو مجرد انتهازي، مستعد لأن يبيع الجميع متى ما تغيرت الرياح.
لقد آن الأوان لكي يُكشف هؤلاء، لكي يُسمّوا بأسمائهم، لكي يعرف الجميع أن” أوطأ” الناس هم من يغيرون مبادئهم كلما تبدلت السلطة، لكن أحقرهم هم الذين لا يكتفون بذلك، بل يحرضون على قتل المختلفين عنهم، ويدفعون باتجاه تحويل كل تغيير إلى مذبحة جديدة. هؤلاء لا يستحقون إلا الاحتقار، مهما كانت ألوانهم، ومهما كانت الراية التي يرفعونها اليوم.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…